روح تائهة.. فؤاد عبد العزيز*

صورة تعبيرية - أرشيف

قالت لي اخلع ملابسك وأعطني إياها كي أنشفها لك من مياه المطر.. كانت سيدة فرنسية أربعينية، استضافتني في بيتها وبين أفراد عائلتها لمدة شهر كامل، وعندما سألتها عن سبب وضعها لخريطة فلسطين على باب التواليت من الداخل، قالت إنه مدون عليها أهم أسماء "الأماكن المقدسة"، التي تحرص على زيارتها هي وزوجها سنويا.. ومع ذلك خشيت أن أسألها: كيف تكون "مقدسة" وتضعينها في المرحاض؟!

في اليوم التالي، سمعت ابنها البالغ من العمر 15 عاما وهو يقول لها عني، اللاجئ، فجذبته أمامي ولقنته درسا أن لي اسما، ولا يجوز أن يقول عني لاجئا، ثم طلبت منه أن يعتذر لي بحرارة.. توسل الولد كثيرا من أجل أن أغفر له، حتى كادت الدموع أن تفر من عينيه.

لاحقا عرفت أن زوجها أمريكي، وهو لا يتحدث الفرنسية جيدا بعكس ما كنت اعتقد، وبعد أسبوع من مكوثي في بيتهم، جاءني الزوج ليخبرني أنه مضطر للسفر إلى أمريكا لمدة أسبوع، ويجب أن لا أقلق من استمرار وجودي بينهم، بل على العكس، هو الآن أكثر اطمئنانا على أسرته فيما لو لم أكن موجودا.

تمنيت في تلك اللحظة أن تنشق الأرض وتبتلعني، فقد أبلغت السيدة الفرنسية، المؤسسة المسؤولة عن سكني لديهم، أنني لا أعيش بينهم كأحد أفراد الأسرة، ولم أتناول الطعام معهم سوى مرة واحدة ولمدة ساعة فقط، وقد تغيبت عن المنزل لعدة أيام، بالإضافة إلى أنهم يرغبون بتقديم الخدمة لي أكثر من تأمين سرير للنوم، بل يريدون لأولادهم أن يستفيدوا من تجربتي وأن يتعرفوا على ثقافة جديدة.. فقد سبق لهم، كما أخبرتني، استضافة الكثير من اللاجئين، من أفريقيا على وجه الخصوص، لكنها المرة الأولى التي يستضيفون فيها لاجئا من الشرق الأوسط، وهم مهتمون بمعرفة ما يجري في سوريا.

بعد شهر، أخبرتني المؤسسة المسؤولة عن تأمين السكن لدى العوائل الفرنسية، أنهم أدركوا أنني أحب أن أعيش لوحدي، لذلك وجدوا لي سكنا عند سيدة أعمال تسكن في وسط باريس في أرقى أحياء المدينة، لكنها تريد أن تتعرف علي قبل أن تقرر إعطائي بيتا مستقلا في العمارة الهائلة التي تملكها.

كانت امرأة سبعينية، تسكن لوحدها في شقة فاخرة في عمارة جميلة تتكون من أكثر من 10 طوابق.. تفحصتني بإمعان، ثم نظرت إلى مرافقي الفرنسي وقالت له: موافقة، ثم أردفت بلغة فرنسية مدغومة وهامسة، كي لا أفهمها: لا يبدو عليه أنه لاجئ.. وقبل أن نغادر طلبت منا أن نجتمع مرة أخرى عندها في البيت لتناول العشاء، ولكن بعد عشرين يوما.

أخبرني مرافقي الفرنسي عندما خرجنا، أنه كونها دعتنا على العشاء، فهذا يعني أمرا عظيما.. كان مسرورا بشكل لا يطاق، لذلك دعاني في اليوم التالي لزيارة متحف اللوفر وعلى نفقته الخاصة.

عندما وصلنا إلى المتحف، أبلغني أنه لا يملك من الوقت سوى ساعة واحدة، بينما تحتاج زيارته لعدة أيام، وعلي أن أختار قسما بعينه نزوره بسرعة، فقلت له دونما تفكير: أريد أن أرى لوحة الموناليزا فقط. 

في ذلك اليوم، جاءني اتصال من شخص، أظنه يسكن في الكويت، طلب مني أن ألتحق بحوار مباشر على السكايبي، سوف يتم إجراؤه مع معاذ الخطيب، رئيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، وأنه يجب أن نركز في الحوار معه، على ضرورة أن يتم الاعتراف من قبل الائتلاف بـ18 آذار على أنه تاريخ بدء الثورة السورية، وأن المهزلة التي جرت قبل عدة أشهر، يجب أن لا تتكرر.

أخبرنا معاذ الخطيب الذي كان يتحدث من القاهرة، أنه ليس لديه من الوقت سوى ساعة واحدة، فاكتشفنا خلالها أن رئيس الائتلاف ليس مع جماعة 18 آذار ولا 15 آذار، وإنما رجع إلى ما قبل ذلك بنحو الشهر، واعتبر من وجهة نظره أنه التاريخ الحقيقي لبدء الثورة السورية. وكان يقصد حادثة الحريقة.. لذلك مضت الساعة ولم نتفق على شيء، وأعلن الخطيب أنه مضطر لمغادرتنا لأنه مرتبط بعمل آخر.

مضت العشرون يوما سريعا، كدت أن أنسى خلالها موعد العشاء، لولا أن وصلتني رسالة من صاحبة الدعوة على الجوال، تذكرني بأن لقاءنا سيكون بعد ساعة.. كنت قد أكلت للتو، فكيف سآكل بعد ساعة..؟ 

يا إلهي، منذ متى يسير العالم حولي بكل هذه الدقة؟!

أرسلت لها رسالة بأنني قادم، لكني لا أستطيع البقاء معهم على العشاء سوى لساعة واحدة فقط!

*من كتاب "زمان الوصل"
(276)    هل أعجبتك المقالة (248)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي