لم يكن محمود درويش يتوقع في لحظة من اللحظات أن يقوم أحد غيره بإعداد ديوانه للنشر. وهكذا مضى مقامراً في رحلة إلى الولايات المتحدة لإجراء جراحة في القلب، كانت مضمونة النتائج إلى اللحظة التي أُعلن فيها أن محمود درويش قد مات!!
مجموعة من أصدقاء الشاعر الراحل شكلوا لجنة واقتحموا منزل الشاعر الفلسطيني الراحل في عمان، وهناك عثروا على مجموعة من الأوراق والقصائد غير المكتملة. قررت اللجنة التي تألفت من الأديب اللبناني إلياس خوري، والفنان مارسيل خليفة، بالإضافة إلى شقيق الشاعر، وغانم زريقات، وعلي حليلة، والمحامي جواد بولص. قررت أن تقوم بنشر الديون دون تدخّلات، ودون إجراء تعديلات من منطق: "لا أحد يصوِّب لمحمود". ويبدو أن الديوان الأخير "لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي" احتوى مجموعة من الأخطاء الطباعية والعروضية، أشار إليها بعض الشعراء، الأمر الذي أثار حفيظة رياض الريس، ناشر دواوين محمود درويش الحصري، فقام بفتح النار على إلياس خوري الذي أراد كتابة مقدمة للديوان قوبلت برفض من الريس، الذي اتهم إلياس خوري بأنّه يريد التسلّق على شهرة محمود درويش.
وفي النهاية صير إلى نشر المقدمة في كتيب مرفق بالديوان كتسوية، مالبثت أن انهارت مع اكتشاف تلك الأخطاء. الريس نقل المعركة إلى الصحافة التي انقسمت بين دعوات تتمحور حول "دعوه يرقد بسلام" وبين خلافات قد تصل إلى القضاء بين الريس وخوري، الذي التزم الصمت.
155 صفحة من القطع المتوسط خربش عليها محمود درويش، آخر ما خطته يداه، صدرت مؤخراً عن دار رياض الريس، ضمّت إحدى وثلاثين قصيدة. تلك الخربشات لشاعر ظلّ طيلة الوقت يجلد ذاته على ما ضيّعه من الوقت، وهي نفسها التي لشاعر استثنائي لن يمرّ مرور الكرام في الذاكرة العربية.
يذهب صاحب "لمن تركت الحصان وحيداً" إلى لغة شفافة، تبتكر، وتتعدَّد في دلالتها، لغة شعرية من غير سوء، وبذلك تكون القصيدة قصيدة الموقف والجماليات في آن معاً، هي قصائد للدهشة، واتقان الصنعة في كلّ جملة، وداخل كل سياق. هي قصائد يتطاول فيها المجاز ليمسّ الأرض والسماء في آن معاً.
هل يمكن القول إنّ محمود درويش رحل طفلاً، وإنه للتو كتب الشعر؟ هذا ما يمكن أن يساله من سيقرأ الديوان الأخير؟ فمحمود الذي كتب عن الموت كثيراً بالكاد يتطرق إلى لحظة العدم التي لا مناص منها. هكذا يكون شاعر أمل لا نهائي، وتكون قصيدته قصيدة ديمومة، قصيدة تصنع من الأرض أمثولة مستمرة لا جدال حولها. في "طللية البروة" يقول: ".. ويقاطع الصحفي أغنيتي الخفية: هل ترى خلف الصنوبرة القوية مصنع الألبان ذاك؟ أقول كلا. لا أرى إلا الغزالة في الشباك. يقول: والطريق الحديثة هل تراها فوق أنقاض البيوت؟ أقول: كلا. لا أراها، لا أرى إلا الحديقة تحتها....
وكذلك تصنع القصائد للعشق معنى آخر. كل هذا عندما لا تكون القصائد لكل النساء لا لامرأة بعينها.
ينتفي الموت "الذي قتلته الفنون جميعها": "لن نموت هنا الآن، فالموت حادثة وقعت في بداية هذي القصيدة، حثيث التقيت بموت صغير وأهديته وردة، فانحنى باحترام وقال: إذا ما أردتك يوماً وجدتك"
يمكن القول أيضاً إنّ صاحب "سرير الغريبة" يجلس في مكان يعرف فيه قيمة ما أنجز، لعله برج عاجي من نوع خاص، يعزله ولا يعزله عن الآخرين في اللحظة ذاتها.
ولذلك يجد القارئ في الكثير من المقاطع حكمة الكبار في التعبير عن الخلاصات القطعية، القادمة من حياة صاخبة لدرويش الذي تقلبت به الدنيا ليكون رمزاً من رموز وطن بأكمله. وطن للمشتتين والضائعين والرازحين تحت وطأة الأمل وقسوته.
يكتب محمود درويش قصيدة إلى صديقه الإشكالي "إيميل حبيبي"، وكذلك يكتب قصيدة إلى "نزار قباني" مبتدع السلالة الشعرية التي شكّل فيها محمود درويش خرقه السحري في اللغة العربية. ربما أراد الشاعر الذي اعتاد العزلة والتخفّي أن يفصح عن أشياء عنده ببطء ورويَّة. ولعل نصوص درويش الشكاكة كما ينبغي أن يكون عليه الشعر، بحاجة إلى وقفة لتشريحها واكتشاف شخصية محيرة في ارتباكها وتوترها الذي ظلّ ينزف شعراً حتى الرمق الأخير.
أما بخصوص السجال الدائر حول ديوان درويش فلا بدّ من ضمّ الصوت والدعوة إلى إيقاف السجال الذي ـ بلا أدنى شك ـ كان درويش سيقف منه مستاء .. ما كتبه درويش ليس قصائد أحد فلا يتنازعنَّ أحدعليها .
في ثنائية الشعر والنثر. لا النثر نثر
ولا الشعر شعر إذا ما همستِ:
أحبكَ! أو قالت امرأة في القطار
لشخص غريب، أعنِّي على
نحلة بين نهديَّ .. أو قال شخص كسولٌ
لاسكندر الإمبراطور: لا تحجب
الشمس عني. ولكنني إذ أغنِّي،
أغنِّي لكي أغري الموت بالموت..
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية