إلى جانب الممكنات الكثيرة التي يمكن أن تتحقَّق في المستقبل الذي ينتظر بلادنا، ثمَّة سوريا مستحيلة.
فالتمزُّق الذي أصاب الخريطة السورية، والذي لم تعد إبرة العسكر قادرةً على رتقه، أصاب علَّة وجود هذا البلد أيضاً.
التعقيد غير المسبوق الذي وصلت إليه الكارثة في بلدنا، جعل الحديث عن سوريا حرَّة وعادلة لجميع أبنائها، في العقدين المقبلين، ضرباً من ضروب الخيال.
نصف القرن من الاستقرار الذي صنعه الاستبداد، سنعيش مقابله نصف قرن آخر من الفوضى التي صنعها الاستبداد أيضاً. وهكذا ستكون البلاد المسمَّاة سوريا قد أزهقت قرناً كاملاً من عمر أبنائها بين ظلمتين لا نعرف أيهما الأشدّ سواداً.
وإذا سألنا عن ثمن ذلك كلّه؟ سيقال لنا بكل بساطة: لأجل سوريا.
وإذا تجرأ أحدنا على الخروج عن تقاليد "السردية الوطنية"، التي صُنِعَ نصفها الأول من القصائد ونصفها الثاني من الشعارات، وسأل عن ماهية هذه السوريا التي يتطلَّب وجودها مذبحة أهلية كبرى شارفت على أن تبلغ العقد من الزمن، والتي يتطلَّب بقاؤها ارتكاب سكَّانها كلّ تلك الفظاعات بحقّ بعضهم البعض، فليس لدى أحد أيّ جواب.
لا أملك تلك "الجرأة" التي امتلكها الصحافي اللبناني الراحل غسان تويني حين وصف الحرب الأهلية اللبنانية بأنها "حروب الآخرين على أرضنا". لا أملك هذه القدرة على تزوير الوقائع والحقائق لأجامل بها تاريخاً مزوَّراً.
سنة 1946 رجل آخر جندي فرنسي من بلادنا، وسنة 1963 حصل انقلاب "البعث". وما بينهما 17 عاماً طحنتها الانقلابات العسكرية المتتالية، ناهيك عن ضياع أكثر من ثلاث سنوات منها تحت الحكم الدكتاتوري للوحدة المزعومة مع مصر. أما بعض الومضات الديموقراطية التي تخلَّلت تلك المرحلة فنسجَ منها بعض السوريين الحالمين الأساطيرَ عن زمن ديموقراطي، طويل وعريض، سبق أن عاشته سوريا!متجاهلين أو جاهلين بأن حافظ الأسد لم يكن إلا تتويجاً لحقبة كاملة من الفشل اسمها "الحكم الوطني". حقبة كاملة من القلاقل والانقلابات العسكرية والشعارات الرنَّانة التي انتهت بأصحابها إلى تسليم السلطة لجمال عبد الناصر. وعندي يقينٌ -مردُّه قراءة أحوال الدول العربية التي شهدت صعود العديد من الدكتاتوريات في تلك الحقبة- بأنه لو لم يأتِ حافظ الأسد إلى السلطة لأتى شبيهٌ له وفعل مثلما فعل من فرضٍ للاستقرار عبر الإرهاب العسكري والجريمة السياسية.
اليوم، الجميع يتحدَّث عن سوريا خاصَّة به يريد فرضها كسوريا المستقبل: جماعة النظام يحلمون بقيام سوريا "متجانسة" (طائفياً) كما سبق أن اعترف رأس نظامهم، وجماعة الأحلام القومية الانفصالية يحلمون بسوريا-روج آفا، وجماعة "القاعدة" يحلمون بسوريا-جيب الإمارة... أما سوريا-الحلم التي مات لأجلها مليون سوري فقد ماتت معهم. أما سوريا-الفكرة التي تشرَّد لأجلها ملايين السوريين فقد تشرَّدتْ معهم... ولم يبقَ من الحلم والفكرة إلا سوريا المستحيلة.
*معارض سوري - من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية