أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

دعاوى إثبات وفاة المفقود الدليل الذهبي لبراءة النظام*

دوما - أرشيف

لم يَدُرْ في خَلَدِ واضعي قانون الأحوال الشخصية السوري منذ أكثر من نصف قرن- حينما حدّدوا أحكام الغائب والمفقود -أنه سيأتي على البلاد حِينٌ من القسرِ تُستخدم فيه مواد القانون طعماً لإيقاع الضعفاء والمظلومين في شَرَكِ الطغاة والظالمين.

وحسبنا لو كنا نعلمه ميتاً لبكيناه ألماً واستمطرنا عليه الرّحمات، ولو كنا نعلمه حيّاً لانتظرناه أملا، وأحصينا الأيام في غيبته بالعبرات والدعوات حتى يعود، لكنه بين حياةٍ وموتٍ، ترشقه اللغة برتبة مفقود.

تعتبر قضية المفقودين أو المغيبين قسراً من القضايا الهامة والمعقدة التي راوغ النظام السوري ومازال يراوغ في الكشف عن مصيرهم، إلا أنّ هذه القضية ليست جديدة على السجل الإجرامي الأسدي، فقد ورث بشار الأسد عن أبيه حافظ سجلاً حافلاً بآلاف المفقودين.

أضاف إليه فصولاً حتى تجاوزت أعداد هم عتبة الـ85 ألفاً منذ انطلاق الحراك الشعبي السلمي في سوريا ربيع عام 2011، وذلك حسب منظمات حقوق الإنسان السورية.

ولقد كان مطلب الكشف عن مصير المفقودين من أول المطالب التي هتفت بها حناجر المتظاهرين عند انطلاق الحراك الشعبي السلمي، ومازال شعار "بدنا المعتقلين..بدنا المعتقلين"، والمقصود هنا المفقودون من عهد حافظ الأسد- يترد صداه في جنبات ساحة الساعة في حمص، ويعلو فوق أصوات المدافع، وتحفظه تلك الساحة عن ظهر دم.

ولا أزعم أني أُقدّم شيئاً غير بديهي حين القول بأنّ النّظام السّوري هو المسؤول الأول والمباشر عمّا جرى في سوريا حتى يومنا هذا من قتل واعتقال وتغييب قسري واغتصاب وتعذيب حتى الموت وتدمير وتهجير.

وتعتبر قضية المفقودين أو المغيبين قسرياً من أخطر القضايا وأعقدها، والتي مازالت تشكّل تأريقاً حقيقياً للنظام يريد إغلاقها والخلاص منها، وخاصة إثر الإحراج الشديد الذي أوقع نفسه به إثر تمريره "قوائم الموت" إلى سجلات الأحوال المدنية التي غصّت بأسماء آلاف المعتقلين الذين قضوا تحت التعذيب في معتقلات النظام الرسمية والسرّية، والتي حصدت تنديداً دولياً تتوّجَ بمطالبته من قبل منظماتٍ دولية عديدة بوجوب تسليم جثث شهداء قوائم الموت إلى ذويهم لدفنها، وأهمها لجنة التحقيق الدولية المستقلة الخاصة بالشأن السوري.

وفي خضمّ سعيه الحثيث لإغلاق هذا الملف الشائك، تداولت بعض المواقع الإعلامية الموالية للنظام، ومنها صحيفة "الوطن" تصريحات منسوبة إلى مصدر

قضائي تابعٍ للنظام حول المدة الزمنية اللازمة للإعلان عن وفاة المفقودين والغائبين من قبل الدوائر القضائية في سوريا وهي أربع سنوات من تاريخ الفقدان بسبب العمليات الحربية حسب التصريح الذي يخفي مكيدة مفضوحة وفخّاً قانونياً خطيراً نَصَبهُ في المحاكم التابعة له بطبيعة الحال.
ويجدر بنا حتى تتكشف هذه المكيدة التّعريج على أحكام المفقود وفقاً لقانون الأحوال الشخصية السوري.

فالمفقود هو كل شخص لا تُعرفُ حياته أو مماته، أو تكون حياته محققة لكن لا يُعرف له مكان، وحدّد القانون حالات انتهاء الفقدان.

فالقاعدة العامة أنّ الفقدان ينتهي بعودة المفقود أو بموته أو بالحكم باعتباره ميتاً عند بلوغه سنَّ الثمانين.

أما الاستثناء، فهو أنه "يُحكم" بموت المفقود بسبب العمليات الحربية، أو الحالات المماثلة التي يغلب عليه فيها الهلاك "وذلك بعد أربع سنوات من تاريخ فقده".

وينبغي أن ننتبه هنا أن المادة المذكورة جاءت بصيغة الإلزام بمعنى أنّ المحكمة الشرعية تُلزم بالحكم بالوفاة عند تقديم الدعوى إليها.

وبما أن غياب المفقود يورّث آثاراً قانونية هامة تتعلق بأمواله وعقاراته وجميع الحقوق والالتزامات (مثل الزوجية)، فهل تبقى الزوجة على عصمته أم لها حق طلب التفريق، ومنها ما يتعلق بحقوق الأولاد ومن يعيلهم واستلام الرواتب مِنْ قبل مَنْ يعيلهم المفقود، أو ترتب حق إرثي للمفقود خلال غيابه، وإن غياب المفقود يشكل عائقاً يؤدي إلى تجميد وتعليق كل تصرفٍ قانونيّ بأموال المفقود كحالة فقدان محامٍ مثلاً فإن زوجته وأولاده لن يستطيعوا استلام مستحقاتهم المالية ليقتاتوا عليها.

ويبدو الأمر بسيطا في حالة الفقدان لظروف عادية، حيث يعيّن القاضي "وكيلا قانونياً" يتولى إدارة أموال المفقود لحين ظهوره أو لحين الحكم بموته عند بلوغه سن الثمانين.

ولكنّ المشكلة تكمن في حالة الفقدان بسبب العمليات الحربية، فتتوقف كل المعاملات المتعلقة بالحقوق والأموال والعقارات لحين مرور أربع سنوات على الفقدان من أجل إقامة دعوى بإثبات وفاته من ذويه ومن ثمّ إجراء معاملة حصر إرث.

وهنا تبرز مكيدة النظام الخطيرة، ففي ظلّ تعليق كافة المعاملات المتعلقة بأموال المفقودين كما ذكرنا آنفاً تخرج تصريحات النظام بضرورة رفع دعوى من قبل ذوي المفقودين للحكم بوفاتهم ليبدوَ النظام كمن يقدّم خدمةً لأهل المفقودين وليحثّهم على المبادرة لرفع تلك الدعوى من أجل تخليصهم من الوضع القانوني والمالي المعلّق لأبنائهم، لكنّ الحقيقة غير ذلك وهي كمن يدسّ السّمّ في العسل.

إذ إنّ قيام ذوي المفقودين برفع "دعوى إثبات وفاة مفقود بسبب العمليات الحربية" وصدور قرار المحكمة بثبوت الوفاة سيتيح للنظام استخدام هذا القرار كدليل براءة له من جربمته بقتل هؤلاء المفقودين أمام المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية الدولية، وبالتالي يضمن عدم مساءلته ومعاقبته.

وهنا لابد من التأكيد على نقطة هامة جداً، وهي أنّ القانون يجيز ولا يجبر ذوي المفقود على رفع هذه الدعوى لأنه حقٌ وليس واجباً فلهم استخدامه ولهم أيضاً تركه، ولكن المحكمة هي من تُلزم بالحكم بالوفاة حال رفع الدعوى، ولذلك يجب تفويت الفرصة على النظام.

إن النظام يحاول استغلال وتوظيف أحكام القانون لمصلحته من أجل طمس معالم جريمته بإخفاء وقتل عشرات الآلاف من المواطنين السوريين.

وعليه فإن إقدام ذوي المفقودين على رفع هذه الدعوى وصدور القرار بها يضعهم أمام احتمالين الأول أخطر من الثاني: 
1- فإذا كان ابنهم المفقود حيّاً بتاريخ صدور قرار المحكمة بثبوت وفاته لكنه مازال حبيس سجون النظام، فإنّ ذلك سيتيح الفرصة للنظام لقتله والتخلص منه مستغلاً الحماية التي يوفرها قرار المحكمة الذي لا يقبل إثبات العكس مطلقاً، وبذلك يكون أهل المفقود قد أعطوا النظام بكامل إرادتهم السكين التي سيذبح بها ابنهم الحي.
2 - أما إذا كان قد سبق للنظام قتله وهو الراجح، فإنّ صدور قرار المحكمة بتثبيت وفاته بناءً على رفعهم الدعوى سيكون بمثابة صكّ براءة للنظام من مسؤوليته عن اختفاء وقتل ابنهم.

ولنا أن نتخيل النتيجة إذا عمّمنا ذلك على بقية حالات المفقودين في سوريا.

إن النظام الماكر نصبَ الفخّ لذوي المفقودين ويتربّص بهم ويحثهم كي يرفعوا هذه الدعاوى، لذلك يجب عدم الانجرار والوقوع في هذا الفخّ وإبقاء عبء إثبات مبرر فقدان أولادهم على عاتق النظام بدل أن يعفوه من ذلك برفع الدعوى، ويقدموا له الخدمة التي لا تُقدّر بثمن، بتمهيد الطريق أمامه لإغلاق ملف المفقودين ومواراته التراب كما سبق ووارى أبناءهم التراب، وبإنقاذه من المساءلة والعقاب.

إن الزمن يمرّ، وترفع كل يومٍ حوالي 70 دعوى من قبل أهالي المفقودين في دمشق وحدها، أي أنه إذا استمر ّ الحال وفق هذه الوتيرة، فإن النظام سيكون في غضون سنةٍ قد أجهز على ملف المفقودين تماماً متنصلا من أية مسؤولية قانونية.

وختاماً أقول: إنّ رفع الدعوى ليس واجباً وإلزاماً على ذوي المفقودين، إنما هو حقٌ، فلهم استخدامه ولهم تركه لأنّ من يملك العطاء يملك المنع، وما عليهم سوى استخدام حقهم بالامتناع عن رفع الدعوى.

لكن الطامّة الكبرى تكمن في استخدام النظام المجرم وسائل ضغطه المعروفة بحق ذوي المفقودين لدفعهم إلى إقامة تلك الدعاوى، أو في قيامه بتعديل قانون الأحوال الشخصية السوري خلال ربع ساعة، كما حدث لدستورٍ ما صيف عام 2000!

*سليمان النحيلي - من كتاب "زمان الوصل"
(251)    هل أعجبتك المقالة (238)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي