أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

في الثورة والثورة المقارنة.. فؤاد حميرة*

أرشيف

أسمح لنفسي في هذا المقال أن أستعير مبدأ القياس الذي أقره الإمام الشافعي والقائل بالعودة إلى الوراء للقياس على مثال سبق لمناقشة أحداث راهنة وإثبات شرعيتها من عدمه، إذ يقيس الشافعي أي حدث يقع الآن على مصادر التشريع الإسلامي (القرآن والحديث والسنة)، فإن لم نجد ما يطابق الحدث في المصادر الثلاثة يكون الحدث باطلا وخارجا عن الشرع، وهذا المبدأ في المحاكمات العقلية يشكل- وفقا لمحمد عابد الجابري – التكوينة الاساسية للعقل العربي، حيث يرى الجابري في دراساته حول الموضوع، وخاصة عبر كتابيه الشهيرين (تكوين العقل العربي) و(نقد العقل العربي) أن المحاكمات العقلية الواعية منها أو غير الواعية تستند في غالبيتها الساحقة إلى مبدأ القياس هذا.

أستعير فكرة الشافعي لأقيس ثورتنا على مثال سبق ويكثر الاستشهاد به عند كل سانحة والمثال هنا هو الثورة الفرنسية التي يحلو للكثيرين نشرها في وجوهنا مثل قميص عثمان كمثال على قدرة الشعوب في خلق التغييرات المهمة عبر التاريخ.

جاءت الثورة الفرنسية كثمرة لعصرة (الأنوار) الذي كان جان جاك روسو وتوماس هوبز وجان لوك من أبرز منظريه وفلاسفته، وأيضا كثمرة لمبادئ العقد الاجتماعي ومفاهيم دولة الحق، فإذا أضفنا لهذه الأفكار الظروف السياسية والاقتصادية التي سادت فرنسا عشية ثورتها على النظام الملكي –الاقطاعي اتضحت الصورة نوعا ما واستطعنا تلمس الخط التصاعدي للثورة الذي امتزج فيه الفكر السياسي الجديد مع القهر والظلم والفقر.

ورغم ما كتبه لتاريخ عن فترة (الرعب) التي شهدتها الثورة الفرنسية وقتلها لمعظم ابنائها ومفكريها الحقيقيين (كما الثورة السورية)، إلا أنها وفي الوقت ذاته فسحت في المجال أمام ظهور تيار فكري معارض للثورة، قاده مفكرون كبار من أمثال لويس دو بونال وفرانسوا دور شاتوبريان في فرنسا وكارل لودفيغ فون هالر في ألمانيا وصموئيل تايلر كوليردج في الولايات المتحدة، إضافة إلى الفيلسوف الأهم إدمون بيرك مؤلف كتاب (الدفاع ع المجتمع الطبيعي)، وبالرغم من تعرض أولئك المفكرين لحملات إعلامية شعواء نعتتهم بـ(الرجعيين)، إلا أن أحدا لم يعمد لقتلهم أو اغتيالهم أو إسكات صوتهم وإخماد أفكارهم التي بقيت حية حتى الآن وهي تشكل موادا رئيسية في الكليات والمعاهد السياسية الكبيرة في كل من أوروبا والولايات المتحدة.

إلصاق صفة الرجعي بأولئك المفكرين وغيرهم يعني أن الثورة كانت في نظر معارضي هذا الفكر ثورة تقدمية، خاصة وأنها تهدم أسس نظام ملكي –إقطاعي يعتمد التوريث للصلاحيات والمناصب كأساس للحكم وقيادة الدولة والمجتمع وهكذا وجدت الثورة الفرنسية نفسها في وضع تقدمي فعلا هدفه البناء لمستقبل سياسي –اقتصادي يقوم على افكار جديدة مناوئة للقديم والبالي بكل قيمه وعاداته وتقاليده وخاصة السياسية منها.

الثورة فكر تقدمي إذا، تعالوا نقارن هذا الكلام بما يشابهه في ثورتنا السورية، والتي جاءت كنتيجة للطغيان والاستبداد، ولكنها لم تكن ثمرة أفكار سبقتها كما حدث مع عصر الأنوار والثورة الفرنسية، لم يسبق ثورتنا أي أفكار أو نظريات سياسية لا جديدة ولا قديمة وجلّ ما كان لا يتجاوز عن كونه اجترار مقيت وبائس لتحليلات البعض عن الوضع السوري بشكل عام، تحليلات هي أقرب لأسلوب الندابات والنواحات منه إلى التحليل المنطقي المقنع، ما أقنع الناس بالثورة هو الشعور بالظلم هذا الشعور لم يترافق مع ثورة فكرية، بل إن منظري الثورة لم يتداركوا هذا النقص حتى اللحظة، فعلى الرغم من مرور ثماني سنوات إلا أننا ما زلنا نقرأ ونسمع ذات الاجترارات وذات النعيق الممل.

ماذا فعلت ثورتنا بمعارضيها أو منتقديها؟ بالقياس إلى الثورة الفرنسية (المثال هنا)، فإن ثورتنا تتطابق حرفيا مع الثورة الفرنسية التي قامت بدورها بالتهام أبنائها التهاما شرسا لدرجة أن كثيرا من الباحثين الذين عاصروا الثورة أو الباحثين الحاليين يسمونها ثورة الرعب أو على الأقل يطال هذا الوصف المرحلة الأولى من الثورة، يصف إدموند بيرك تلك اللحظات فيقول: (لقد استقرت الفوضى في العديد من مناطق أوروبا وفي أماكن أخرى نسمع همهمة مقعرة وجوفية ونحس بحركات غامضة تهدد بخلخلة العالم السياسي مثل زلزال) ولا يتوقف وصف الرعب الذي أحدثته الثورة الفرنسية عند بيرك وحده، بل يتجاوزه إلى مؤيدي الثورة وإلى أشد المشاركين والمدافعين عن أحقيتها وشرعيتها.

عند هذه الانتقادات، عند هذه الدراسات كان ينبغي لثورتنا أن تتوقف وتدرس الوضع جيدا للاستفادة من الدرس الذي تقدمه الثورة الفرنسية، ولكن ذلك لم يحدث رغم مضي سنوات ثمان.

لم تقتل الثوة الفرنسية معارضيها وسمحت لهم بنشر أفكارهم المناوئة في الصحف والمجلات ونشر أبحاثهم في الجامعات، فيما تقتل ثورتنا منتقديها حتى من داخلها، تمعن ثورتنا في اغتيال المختلف، رغم أنه معنا في ذات الخندق لمجرد أن اختلافه يهد مصالح القتلة ومموليهم لمجرد أن حركة هذا الناشط أو ذاك، ومقالة هذا الناشط أو ذاك من شأنها أن تهدد الراتب الشهري الذي يتقاضاه عناصر التنظيم أو يهدد استمرار التمويل الذي يعني استمرار التنظيم بالتسلح والذي يعني بدوره استمرار قمع الناس وسرقتهم وسرقة بيوتهم واعتقالهم وإرهابهم في سلوكيات هي أشبه بسلوكيات النظام وجيشه وأفرعه الأمنية، لدرجة أن شخصا أعتبره من أكثر النشطاء نظافة في اليد والفكر ومن أكثرهم حماسة للثورة، يرسل لي رسالة في تعليقه على اغتيال رائد فارس وحمود جنيد (يعيش الأسد إلى الأبد). إلى هذه المرحلة يوصلنا البعض إلى الاستنجاد بالنار من رمضاء من يفترض أنهم رفاق الحلم في الحرية والعدالة والمساواة.

في أعقاب الثورة الفرنسية بسنوات قليلة خرجت الجيوش الفرنسية لتعلن جمهورية فرنسا الاستعمارية هذه الجمهورية التي أعلنت مبادئها حول الحرية وحقوق الإنسان هي التي أرسلت نابليون لاحتلال مصر بعيد سنوات قليلة فقط، هذه الجمهورية التي تنكرت لمبدئها، هذه الجمهورية التي انقلبت على ثورتها وعادت للحكم الرجعي الملكي ممثلا بنابليون، ولكن ليس هذا ليس مقصدنا وما أردنا قوله في هذا الاستطراد أن الثورة الفرنسية لا تصلح كمثال وإنما هي درس نستفيد منه.

نعود للمقارنة، يقول غيوم سيبرتان في كتابه (الفلسفة السياسية) إن الثورة الفرنسية استبدلت النظام الملكي القمعي بنظام قمعي أشد قسوة وشراسة رغم أنه نظام ثوري وهذا ما تسعى إليه ثورتنا، استبدال نظام الاستبداد بنظام استبدادي قد يكون أكثر دموية وقمعية وقهرا كما استبدلت نظام الطغيان بـ(طغيان الديمقراطية). 

ثمن السكوت سيكون باهظا وتكاليف صمتنا ستحرق كل أحلامنا سواء ما بقي أخضر منها أو تلك الأحلام التي أصابها اليباس، فلنرفع الصوت عاليا ولنرفض كل فكرة دخيلة على ثورتنا لنقم بفعل حقيقي يحاصر الخطأ ويجتثه لتعم مظاهرات التنديد كل مدن العالم التي يتواجد فيها السوريون كاشفين عن الوجه الحقيقي للثورة وناسفين كل الوجوه المشوهة، ودعونا نستفيد من تجارب الآخرين، فمن كان ذا رأي مبني على وعي ودراية فليقله أو فليصمت احتراما لجهد الآخرين وامتنانا لدماء شهداء هذه الثورة.

*من كتاب "زمان الوصل"
(175)    هل أعجبتك المقالة (183)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي