كان على السوري أن يتعلم ألف باء القومية العربية قبل أن يلعب مع أولاد الحارة (الغميضة) أو يقذف (الدحل) بين أصابعه الصغيرة، وكان لا بد من تذكيره صباح مساء في التلفزيون وعلى إذاعة دمشق بأن العرب أمة واحدة ذات رسالة خالدة...وتاريخ ومصير واحد.
كبرّ الطفل وبقيت هذه الأمثولة التي ربيّ عليها هي ما يربطه ببقية الأشقاء من مشرقها إلى مغربها، وفي ذات الوقت عاماً بعد آخر تصغر الفكرة وتتهشم، ويكتشف أن هذا المصير الواحد يشبه بالضبط ذاك المشهد المريع الذي سقطت فيه الممالك المنفردة في الأندلس واحدة تلو أخرى، وبقية الممالك تنتظر دورها بكل استسلام، وآخر المطاف أن تسقط لديه كذبة الفتح لتصير احتلالاً.
نضج الفتى، وحفظ قصائد محمود درويش عن ظهر قلب، وكذلك (لا تصالح) لأمل دنقل، وبيان نزار قباني عام 1967، وغنى (خبطة قدمكم) مع فيروز، وآمن مع سعد الله ونوس بأن الهزيمة يقف وراءها قادته الذي ورطوه بمعارك أكبر من إمكانياته، ومن ثم اكتشف خيبات الانتصارات، والجيوش الخائرة التي يسوقها اللصوص لخدمة الجنرال العربي في كامل مظهره المدني والعسكري.
كان على السوري أن يرى فيما بعد أكوام العرب الوافدين إلى دمشق، وأن ينظر إلى الغرف التي صارت مقرات ممولة ومدعومة، ويصدق كذبة جديدة أن هؤلاء هم بقية أعداء الهزيمة والتطبيع، وأنهم مثله تربوا على قارعة القومية العربية مخلصين لها وله، وأن يعتز بدولته التي تستقبل العربي دون جواز سفر أو على الأقل تأشيرة عبور لشوارع دمشق الحاضنة.
بكى (محمد السعيد) كامرأة مفجوعة بعد سقوط البصرة، وأحس الجميع حينها أن الحطام في هذا المكان بالضبط يعني الفضيحة التي كان تسترها قلوبنا قد أعلنت بعد أن ساهم العرب في الحرب، وممولها على أنها انتصاف للحق، ومعها افتضت قضيتهم (المركزية)- هذه المفردة البغيضة- إلى أن بات التطبيع داخل فلسطين وفي العواصم العربية سراً وعلانية.
حضرالربيع العربي كفَرجٍ مقدس في زمن انهيارات المقولات والشعارات الكبيرة عسى يولد زمن عربي جديد بلا نفاق، وكانت ساحات العواصم الأم في هذا الشرق الشبق للحرية تحاول النجاة من خديعتها، وكان على المظلومين وقدامى اليسار ومحدثوه، وعلى العروبيين بالتحديد أن يكونوا هناك حيث تكون الجماهير.
اليوم وبعد أن صمتت هتافات الشارع، والدم يغص بشوارع الأمل، وباتت المقصلة طريق العودة إلى حضن الوطن، وسقطت الساحات واحدة تلو الأخرى...الآن يعود القومجيون العرب إلى دورهم في تذكيرنا بالذي مضى، وأننا يجب ان نتوحد تحت سقف الحكومات التي أخذتنا إلى الهاوية.
في دمشق وتونس وبيروت وصولاً إلى مقديشو ثمة من يريد أن نبتلع السم من جديد، ويعدّ لنا أهزوجة وحدة جديدة حيث تمضي أرقام أخرى إلى المقصلة ولكن ذاك السوري الصغير لن يستطيع دخول إي عاصمة عربية دون تأشيرة دخول... ولن يحصل عليها.
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية