أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

إخلاء السّبيل لدى محاكم الإرهاب والعسل المر*

صورة تعبيرية - أرشيف

وُلدَ البشر أحراراً، لذلك تُعتبر الحرية عنوان الوجود الإنساني، ومعيار كرامة الإنسان وإنسانيته.

أجدني أستشعرُ هذي المعاني وأنا أجولُ في دهاليز قوانين الإرهاب التي سَارعَ النظام السوري إلى سنّها على عجلٍ لمواجهة انتفاضة الشعب السوري من أجل تكسير قيود الظلم والاستبداد بغية العودة إلى لحظة الحرية البكر عند الولادة الأولى.

وفي حقيقة الأمر إن قوانين الإرهاب السورية لا تُعدّ قواعد قانونية بقدر ما هي سلسلة قيود وكوابح قاسية في وجه الحرية الشخصية، وخاصةً تلك القيود المانعة للحرية.

وربما ينجلي المعنى أكثر لو علمنا أنّ أقلّ عقوبة وردت في قانون مكافحة الإرهاب هي الحبس مع الأشغال الشاقة لمدة خمس سنوات.

وفي التطبيق العملي على أرض الواقع، فإنّ الأجهزة الأمنية فهمت إنّ المراد من قانون مكافحة الإرهاب هو التوسع في الاعتقالات بين صفوف الشعب الثائر أثناء المظاهرات وعلى الحواجز وأثناء حملات الاقتحام والتفتيش التي كان يشنّها بحقّ السوريين على امتداد الجغرافية السورية الثائرة.

وكذلك الأمر بالنسبة للجهاز القضائي، والذي اشتقَّ منه النظام قضاءً استثنائيا خاصاً مؤلفًاً من (نيابة عامة وقاضي تحقيق ومحكمة الإرهاب) للنظر في قضايا الإرهاب.

فقد أتاحت نصوص قانون الإرهاب بألفاظه العامة والشاملة والمجملة للسلطة القضائية للتوسع في شمول مفهوم الإرهاب، وبالتالي أدى إلى توسيع دائرة الاتهام والمتهمين ليشمل أفعالا لا تشكل جرما، إلى أن بلغ الأمر درجة أن تُحرك الدعوى العامة ضدّ شخص بجرم إرهابي وتصدر بحقه عقوبة تصل إلى الإعدام أو الأشغال الشاقة المؤبدة لمجرد ورود اسمه عرضاً أثناء استجواب أحد المتهمين لدى القاضي، الأمر الذي أدى إلى زيادة هائلة في أعداد الموقوفين والمتهمين.

ومن الطبيعي عند زيادة أعداد المعتقلين بالشكل المذكور أن يؤدي ذلك إلى إطالة أمد التحقيق كثيراً، وإلى بطءٍ في الإجراءات، الأمر الذي يؤدي إلى إطالة مدة توقيف المتهمين الموقوفين احتياطياً على ذمة التحقيق.

ومن اللحظة التي يُحالُ فيها المعتقلون من الفروع الأمنية إلى المحكمة يتنفسون الصعداء، ويشعرون أن باب الخروج من السجن بات مفتوحاً، وأنهم على مقربة من جني عسل الحرية، حيث أصبح بالإمكان تقديم طلبات إخلاء سبيل إلى القاضي الذي يفُترض أنه جهة مستقلة وعادلة وحيادية، وتراعي حقوق الإنسان، وأنّ الإدانة لديه لا تتم إلا بناءً على دليلٍ قاطعٍ.

لكنّ تصوراتهم وأحلامهم تذهب أدراج الرياح، فإذا بالتوقيف الاحتياطي -الذي هو عبارة عن تدبير احتياطي مؤقت والذي ينبغي أن يراعي فيه القاضي مصلحة الموقوف وحريته إلى حدّ بعيد -ينقلب إلى ما يشبه العقوبة، خاصةً بعد مرور سنوات على توقيفه.

إنّ الإجراء العملي المتبع أمام قاضي التحقيق هو أن يقوم القاضي باعتماد أقوال المتهم المنتزعة منه بالإكراه والواردة في ضبوط الفروع الأمنية، ومن ثم إصدار قرار باستمرار توقيفه، إن كل تلك المعطيات والتدابير المذكورة أعلاه سوف تؤدي إلى:
- إطالة أمدِ المحاكمة وبقاء المتهم موقوفاً مدة طويلة.
- عدم البت بطلبات إخلاء السبيل، أو على الأقل تأخُّرُ البت بها، حيث من السهل على القاضي أن يرد الطلب بحجة عدم استكمال التحقيقات نظراً لوجود أشخاصٍ مطلوبين لصالح القضية متوارين عن الأنظار.
-والأمر الأنكى بالنسبة للموقوفين هو أن قرار قاضي التحقيق برفض طلب إخلاء السبيل يصدر قطعياً غير قابلٍ للطعن حسب المادة 7 من قانون إحداث محاكم الإرهاب، الأمر الذي يعتبر مخالفة صريحة لأبسط أصول وضمانات المحاكمة العادلة، وما على الموقوف سوى إعادة المحاولة وتقديم طلب آخر لنفس القاضي الذي سبق ورفض إخلاء سبيله.
-إنّ استمرار توقيف المتهم لمدة طويلة، وخوف الموقوف وممن بقي من أهله على قيد النجاة من بقاء ابنهم في السجن الذي قد يخرج منه جثة هامدة في ظروف السجن غير الصحية وجولات التعذيب اليومي، والخوف من أحكام تتربص به قد تودي به إلى الإعدام أو الحبس مع الأشغال الشاقة، بالإضافة إلى نفقات الدعوى وأتعاب المحاماة الباهظة في مثل هذه القضايا.

ولا شك أن كل تلك الظروف والمخاوف المحيطة بإخلاء السبيل ستؤدي إلى اضطرار أهل الموقوف إلى بيع كل ممتلكاتهم وأراضيهم وربما بيوتهم التي يسكنونها من أجل تأمين نفقات إخلاء السبيل سوف يقعون في الحاجة والعوز.

وأما الموقوف الذي لا يملك أهله المال سيبقى موقوفا، ويحال إلى محكمة الإرهاب حيث ينتظره مصيرٌ قاسٍ.

وهناك في محكمة الإرهاب تبدأ معاناة أخرى، حيث تتسم الإجراءات بالبطء وتباعد مواعيد جلسات المحاكم التي تصل إلى ثلاثة أشهر بين الجلسة والأخرى، حتى أنّ الكثير من المتهمين يكونون قد استنفذوا مدة العقوبة حين صدور الحكم بحقهم بالإدانة، ليصدر القاضي حكمه بالعقوبة والاكتفاء بمدة التوقيف وإطلاق سراحه نظراً لاستغراق مدة العقوبة بالتوفيق الاحتياطي.

لكنّ معاناة الموقوف وأهله في رحلة إخلاء السبيل المضنية والطويلة لا تنتهي عند هذا الحد فقط، إذ إنّ الإجراء المتبع لدى قاضي التحقيق أو المحكمة عند إخلاء السبيل، هو أن القاضي يقرر (إخلاء سبيل الموقوف وإطلاق سراحه فوراً، إن لم يكن موقوفاً أو مطلوباً لداعٍ آخر).

وهنا المفاجأة التعيسة والطامة الكبرى، هي أنّ تكليفاً بالخدمة الاحتياطية كان قد ورد من شعبة تجنيد الموقوف إلى المحكمة، وفي هذه الحالة يتمّ سوقه إلى الخدمة الاحتياطية فورا دون أن يرى أهله وليُزج به في الجبهات المشتعلة بمواجهة أبناء وطنه، وليقع َالأهل فريسة الخذلان وكسر الخاطر والحسرة وضياع أموالهم.

بهذا الشكل حبكَ النظام معوقات إخلاء السبيل فتحول التوقيف الاحتياطي من تدبير احتياطي مؤقت تحفظ خلاله حقوق الموقوف إلى عقوبة، وهكذا يكون قد عاقبه بقرار مسبق قبل محاكمته، فلا يُطلق سراحه، ولا ينال من إخلاء السبيل، إلا العسل المر.

*سليمان النحيلي - من كتاب "زمان الوصل"
(181)    هل أعجبتك المقالة (209)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي