عندما قامت الثورة في العام 2011 كان هناك خيار آخر أمام السوريين وهو أن يستمروا في "عايشين"، يذهبون إلى وظائفهم وأعمالهم، يأكلون ويشربون، ينجبون، يُعتقلون، يفكرون فقط بتفاصيل حياتهم اليومية، رغم أنه ليس بالخيار المناسب لأنه بلا كرامة، إلا أنه يبقى خيار حياة.
وعندما قتلهم النظام في مظاهراتهم بقي لهم خيار الاستمرار فيها والهروب المتكرر من البطش، وكذلك خيار الانتقال إلى العسكرة، وهو ما حصل، صار هناك محرر يعيشون فيه، يقاتلون ويقتلون، تتاح فيه فرصة الحياة، رغم ارتفاع احتمالات الموت لأن له مسببات أخرى فوق طبيعية.
لنقص الخبز حلّ، حيث يمكن استبداله بالبرغل والرز وما يؤكل من حشاش الأرض، وهذا يمكن أن يكون حلّا للنقص في الطعام، لكل مشكلة حلّ وإن كان غير مرضٍ، لكنه يفسح المجال لاستمرار الحياة، أما أن تنحصر الخيارات بين الموت والموت فهذا يترك مجالا واحدا أمام الواصلين إليه، وهو اختيار كيفية موتهم.
أكثر الناشطين والعاملين في المجال المدني السلمي والأحرار الذين لا يقبلون العيش بذلّ وصلوا إلى نقطة انتفاء الخيارات، فإما الموت بنيران الملثمين المعروفين، أو الموت بمعتقلات النظام، أو رصاص الجندرمة إن حاولوا الخلاص مما هم فيه.
هؤلاء الذين يعيشون في المناطق الموسومة بالمحررة مفتوحة شرايينهم على النزيف حتى الاستنزاف المميت، بات من خيارات موتهم مواجهة القاتل بطرق قد لا نعرف منها شيء لأنهم قد يخترعون سبلا جديدة يتفرّدون بها، فالحاجة أم الاختراع.
عندما يتفرغ الحيّ لابتكار طريقة موت لا مفرّ منه، قد يبدع ويقلب الموازين، فتوهب له الحياة ويجعل محاصريه يندمون على سحب خيارات الحياة منه، ستكون ثورة مختلفة عن الثورات المألوفة، ولا شك منتصرة، فهي لن تسلّم زمامها لقيادة قد تكون مأجورة تمنع عنها أسباب النصر، كلّ من فيها ثائر يقود نفسه إلى الطريق الذي اختاره لموته.
إن الموت الذي يحاصر السوريين في مناطق سيطرة الملثمين سيكون الطريق الأوسع لحياة سمتها الكرامة والحرية، لأن القتلة سيعجزون عن الإحاطة بكل الطرق التي اختارها هؤلاء لموتهم، فلن يرضى أي منهم أن يموت دون أن يترك في العدو جرحا غائرا يدفعه للانسحاب أو يقتله النزيف.
يتوجب على الملثمين والنظام الخوف لأقصى درجة، لقد وصلوا لمرحلة المواجهة القاتلة مع خصم لا يخسر ولو مات، يحاربهم من حيث لا يدركون وبطريق لم يألفوها، هم يتقنون القتل بالطريقة التقليدية، وهو لن يلجأ إلى ذلك.
النظام، على عكس ما يدعي، يريد للوضع في إدلب أن يستمر على ما هو، وكذلك الملثمون، وتتردد تركيا باتخاذ خطوة حاسمة لتغيير الوضع بما يسمح للمدنيين بحياة تتصف بالحد الأدنى من الأمان والكرامة، أما هؤلاء فهم من سيكونون أداة التغيير، ولن يسمحوا للموت المجاني أن يأتي عليهم واحدا تلو الآخر.
احذروا ممن لم تتركوا لهم خيارا، أنتم من حفر قبره بيده، وربما لن تحظوا بفرصة الندم على أفعالكم التي قولبتموها بإسلام هو بريء منكم.
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية