تعيش المنطقة العربية حالة من غياب الإرادة السياسية وبعدا متناميا عن قضاياها المصيرية المهمة، فبعد أن كان الحديث منذ سنوات يتناول تأثير العرب في الأحداث الدولية انكفأ الكلام إلى أضيق حدوده بحيث لم تعد الإرادة السياسية العربية قادرة على التأثير في قضاياها الوطنية الداخلية، ناهيك عن مسائل ملحة ومصيرية كالثورة السورية والحرب في اليمن والأوضاع في ليبيا والوضع العراقي، فالملاحظ في كل تلك الملفات السابقة هو انكفاء (كي لا نقول انطفاء) التأثير العربي في أي من تلك الملفات بسبب غياب وحدة الأهداف والرؤى، ذلك أن جميع الدول العربية دون استثناء تعاني أزمات أمنية تهدد كيانها ووحدة أراضيها، إضافة إلى المشاكل الاقتصادية التي تعصف بكل تلك الدول، بما فيها تلك البلدان التي تصنف على أنها غنية بالنفط ومشتقاته وراكمت ثروات خلال العقود الماضية من عائدات النفط.
لقد تراجعت المفاهيم القومية والشعارات المنطلقة من خصوصية عربية قائمة على وحدة الثقافة والتاريخ والمصير المشترك، وتم تجاهل الروابط التاريخية والمصلحية التي تجمع الدول العربية بعضها إلى بعض، وتضاءل الفكر السياسي المطالب بالتضامن العربي والداعي إلى وحدة الأمن العربي وجرى استبدال تلك الشعارات والمقولات بسياسات التنافس على النفوذ واللعب على خطوط التماس بين الدول الكبرى ما أدى إلى غياب عربي عن التأثير في مشاكله المباشرة مع تصاعد في وتيرة التناغم الإقليمي، خاصة وأن الأحلاف الجديدة تضم فرقاء عانت علاقاتهم من عداء شديد في الماضي القريب، ولكن ضعف الحالة العربية والفراغ الذي تسببت به الاستدارة الأميركية عن مشاكل الشرق الأوسط جعلت من تناغم أعداء الأمس وتقاربهم على حساب القضايا العربية الهامة والمصيرية.
كما تزامن ذلك مع عودة الاستعمار التقليدي القديم وعودة الدول الكبرى إلى نمط الاحتلال التقليدي بقوة العسكر وبناء القواعد العسكرية التي جاهدت شعوب المنطقة خلال القرن المنصرم للتخلص منها والحصول على الاستقلال عن قوات الاحتلال الأوروبي.
يحدث كل ذلك في ظل صراع بين ما يسمى بدول الاعتدال ودول ما يسمى بدول الممانعة وسعي كل حلف لاستقطاب الأقوياء بجيوشهم وعتادهم بهدف تحقيق النصر على الدولة العربية (الشقيقة)، ما أدى بدوره إل تداخل المواقف والمصالح الدولية والإقليمية وطرح وقائع جديدة على الأرض تجلت في تقدير الدول الكبرى لأهمية الدول الإقليمية التي تشهد نموا للنفوذ في المنطقة العربية مستفيدة من حالة التشظي التي تعيشها الدول والحكومات العربية.
ففي الملف السوري -وهذا ما يهمنا هنا- اختفى أي دور عربي مؤثر وفاعل اللهم ما خلى الدور الإعلامي، فعلى الرغم مما تشهده المنطقة يبدو أن الوضع في سوريا هو الأكثر توترا والأكثر استحواذا على الاهتمامين الإقليمي والدولي، حيث إن ما يلفت النظر في هذا المجال هو الدور الروسي والإيراني والتركي تلك الدول التي كانت أكثر استفادة من غياب العرب عن الملف السوري منذ مؤتمر "سوتشي" الذي استبعد أية قوى سياسية عربية في تجاهل مهين للعروبة وللحكومات التي تدعي رعايتها للإسلام والعروبة على حد سواء.
اثنان وعشرون حربا شهدتها العلاقات الروسية -التركية خلال قرن واحد امتدت ما بين منتصف القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين وحتى بعد انهيار الدولة العثمانية لم تكن العلاقات بين البلدين على ما يرام، رغم أن الثورة البلشفية التي قامت في الاتحاد السوفييتي كشفت للأتراك تفاصيل مؤامرة سايكس –بيكو، وبالرغم من توجه الدولة التركية الحديثة نحو علاقات قوية مع روسيا الشيوعية، إلا أن شهر العسل ذلك لم يكن طويلا إذ سرعان ما انتهى نتيجة للخلاف بين أنقرة وموسكو حول الممرات المائية والمضائق تلاها دخول تركيا في حلف الشمال الأطلسي العدو اللدود للسوفييت مذاك وحتى الآن.
ولكن وبالرغم من ذلك تشهد العلاقات الروسية -التركية تقاربا كبيرا خاصة في الملف السوري، فالتنسيق بين الطرفين منقطع النظير ويكاد يشمل أدق تفاصيل التحركات الأنية والمستقبلية فيما يتعلق بهذا الملف، بل إن العلاقات بينهما شهدت تطورا أغرب في أعقاب إسقاط تركيا لطائرة روسية عبرت أجواءها عن طريق الخطأ.
في المقابل يشهد الملف السوري تقاربا تركيا -إيرانيا على الرغم مما بين الدولتين من تنافر في المصالح، ويأتي هذا التقارب على حساب المصالح العربية في سوريا وعلى حساب غياب أي دور عربي مهما كان مستواه متدنيا.
وبالرغم من الخلاف التركي -الأميركي حول القوات الكردية ودعمها عسكريا وماليا من قبل الولايات المتحدة والتي ترى فيه تركيا تهديدا صريحا لأمنها القومي، إلا أن التنسيق بين الطرفين قائم على قدم وساق في الملف السوري تحديدا.
إن دراسة الموقف العربي -وهذا ما نقوم على الإعداد له في "زمان الوصل"- يطرح تساؤلات خطيرة عن مفهوم العروبة والقومية، فهل كانت العروبة أكذوبة ووهما بدأت تتراجع أمام حقائق الواقع والمنطق؟ أم أن العروبة حقيقة قائمة تدعمها الأدلة الثقافية والتاريخية والجغرافية، إلا أنها تتعرض لحرب شرسة بهدف إنهائها ووضعها في سلة مهملات التاريخ، وذلك بالاعتماد على حكومات عميلة ووضيعة لا تفعل شيئا غير تنفيذ المؤامرات التي يأمر بها أسيادها وحماتها من دول النفوذ في العالم؟
*فؤاد حميرة - من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية