مات الأسد الأب تاركا لابنه سلطة محكمة وعلاقات ممتازة مع كثير من دول المحيط ودول العالم وعلى رأسها فرنسا والولايات المتحدة في الغرب وإيران ودول الخليج العربي، وبدا الحكم السوري في لبنان شبه أبدي بالتعاضد والتحالف مع إيران وذراعها العسكري حزب الله.
ولكن لم يمض قت طويل حتى بدأ الابن بتخريب العلاقات التي أرسى أسسها الأب لحماية حكمه وضمان ديمومته في الابن، فمع الغزو الأميركي للعراق طفت على السطح الخلافات الإيرانية -السورية، ذلك أن الأسد الابن كان منذ البداية معارضا للغزو الأميركي، فيما رأت طهران أن إسقاط نظام صدام حسين من شأنه أن يفسح المجال أمام المعارضة العراقية التي تربت في إيران وفي حوزاتها العلمية الشيعية للسيطرة على البلد العربي ذي الأهمية القصوى لإيران بسبب موقعه الجغرافي وأهميته العالمية لما يمتلكه من مخزون نفطي هو الأغنى في العالم.
هذا الخلاف كان في مرحلة الرماد تحت الجمر ولكن فصوله بدأت تتكشف مع بدء الدعم الذي قدمته دمشق لجماعات مسلحة سنية متطرفة بحجة محاربة الأميركيين في العراق فقدم النظام التدريب والسلاح والرجال وجهزهم للقتال في ساحات العراق ومدنه، وتكثفت زيارات المسؤولين الإيرانيين إلى دمشق ولقاءاتهم مع راس النظام أكثر من مرة لمحاولة تغيير موقفه في العراق، إضافة إلى التهديدات الأميركية في اجتياح سوريا إذا لم تبادل السلطات السورية إلى ضبط حدودها وكثيرون يتذكرون هنا الرد الشهير لبشار الأسد على دعوات الأميركيين لضبط الحدود بقوله أن الولايات المتحدة ذاتها غير قادرة على ضبط حدودها مع المكسيك مثلا، فكيف تطلب من دولة مثل سوريا بضبط حدود ممتدة لمئات الكيلومترات بضبط حدودها.
موقف الأسد هدد مخططات الأميركيين المتكئة أصلا على المخطط الإيراني بالسيطرة على العراق وتحقيق الهدوء ووقف الاقتتال بعد تحقيق السيطرة الإيرانية، فكان لا بد من جرس قاس للرئيس الشاب الغر في السياسة لتعليمه أصول التفكير السياسي وتغيير موقفه من موضوعة العراق، فكانت الخطة الإيرانية تتركز على تقليم أظافر الأسد وسحب بعض الأوراق من يده وخاصة في لبنان التي تعتبر السند الرئيس للسياسة السورية، فخططت لاغتيال الحريري الأمر الذي تم في الرابع عشر من شباط/ فبراير عام 2005، وتم إلصاق التهمة بالنظام السوري وتحميله كافة تبعات الجريمة، وأنا هنا لا أبرئ النظام من دم رفيق الحريري ولا أدعي أني أبني استنتاجي على معلومات، وإنما على معطيات وأحداث مرت بسرعة بسبب، الانهماك العام بالتبعات والتوافق الدولي على أن من ارتكب الجريمة هو النظام، ولكني أرى أن اغتيال الشهيد الحريري لم يكن في صالح بشار الأسد على الإطلاق، فما حدث بعد ذلك يثبت العكس إذ أن المستفيد الأكبر هو إيران والولايات المتحدة، ففي أعقاب الاغتيال خرج الجيش السوري من لبنان بناء على قرار أممي بعد سيطرة تامة ومطلقة دامت ثلاثين عاما، وكان الخروج مذلا كسر ظهر النظام حقيقة وأفقده أحد أهم أوراقه في المنطقة، ولا بد أننا نتذكر الموقف الناعم لحزب الله ولإيران إزاء قضية خروج الجيش السوري فحتى خطابات حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله لم تُظهر أي أسف على هذا الخروج، اللهم بعض الكلمات المتعاطفة التي لا تعدو عن كونها تعمية عن الموقف الحقيقي المرتاح لخسارة النظام ورقة لبنان ما يعني سيطرة إيرانية مطلقة ودون شركاء ومنافسين على الساحة اللبنانية. ومذاك الحين وقع الخلل الأهم في العلاقة بين طهران والنظام، فبعد أن كانت قائمة على التكافؤ أصيبت تلك العلاقة بالعطب ومالت الكفة فجأة وبعنف لصالح الإيرانيين، وصار الأسد مجرد جرم يدور في فلك السياسة الإيرانية وتحول إلى مجرد موظف من الدرجة الرابعة بالنسبة للإيرانيين.
لم يفهم النظام أن حزب الله ليس ورقة مشتركة بينه وبين طهران بل هو عبارة عن قاعدة إيرانية محضة ولن تكون سياساته إلا في صالح المصالح الإيرانية حتى ولو على حساب المصالح السورية.
لقد ظن الأسد أن حزب الله وفي كل الظروف سيكون مضطرا لأن يكون حليفا للنظام ولم يستوعب النظام أيضا أن إيران بنت لنفسها قوة منفصلة ليست شيعية فقط وإنما استثمرت في الورقة السنية أيضا، فكان التحول الإيراني مفاجئا بالنسبة له وربما أفقده صوابه لبعض الوقت وشعر النظام أنه يترنح وأنه بات في حاجة للدعم الإيراني أكثر من ذي قبل بالرغم من كل ما حدث على الرغم من كل الأذى الذي تسببت به إيران للنظام.
غير أن الأسد إلى الآن مازال يحتفظ ببعض أوراق الضغط وخاصة في العراق، كمان أن سوريا ذاتها نقطة انطلاق إيرانية لتمدد نفوذها في المنطقة العربية، وهكذا حافظ التحالف بين طهران ودمشق على وجوده، ولكنه شهد تغييرا في الماهية إذ تحول من تحالف استراتيجي إلى تحالف الضرورة المرن.
كما أن يد طهران صارت تضغط بقوة على رقبة الأسد ما دفعه للبحث عن تحالفات جديدة تحميه من السيطرة الإيرانية أو على الأقل تخفف من شدة خناق الاصابع الإيرانية على رقبة سياسته داخليا وخارجيا.
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية