في الثامنة والنصف من مساء 16 تشرين الثاني 2018 ، يكون قد مر 48 عاما بالتمام على اللحظات التي لامست فيها أسماع السوريين كلمات "بيان" يعلن لهم انقلابا جديدا، سيكتشفون لاحقا حجم تأثيره الشمولي المرعب، الذي جاء للبلاد والعباد بالاعتقال والتصفية وكتم الأنفاس والفساد وامتهان الكرامات والاستعباد والدمار، وقدمها لهم تحت عباءة "التصحيح"، بل وأوجب عليهم أن يحتفوا بهذه الكوارث باعتبارها "منجزات".
وفي مثل هذا اليوم يكون قد مر 18 عاما ونحو 5 أشهر على موت صاحب الانقلاب، الذي ظن سوريون كثر لحظة سماع نعوته أن غمته السوداء قد انزاحت "إلى الأبد" عن صدر سوريا، فتبين عاجلا وآجلا أن شبح صاحب الانقلاب كان أشد وطأة وأعظم فتكا بالسوريين من صاحب الانقلاب نفسه.
*الرحمات لصاحب اللعنات
جثم حافظ الأسد على كرسي الرئاسة بموجب بيان انقلاب حدد ساعته، ولم ينزل عن هذا الكرسي إلا ببيان موت عجز عن تحديد توقيته، وما زال بيان الموت عالقا في أذهان كثير من السوريين، أقلها لأنه كان يتسول الرحمات لرجل صب على الناس جميع أنواع اللعنات.
أما بيان الانقلاب، فإن السواد الأعظم من السوريين لا يتذكره، ولم يتسن لهم مشاهدته، ولا يعرفون –أسوة ببيان الموت- من تلاه، وربما يغلب على ظنهم أن من قرأ بيان الانقلاب مات منذ زمن، حاله حال صاحب الانقلاب ومذيع بيان الوفاة.
ولكن الوقائع تؤكد أن المذيع الذي تلا بيان انقلاب حافظ (الحركة التصحيحية) ما يزال حيا، وما يزال يعيش في كنف النظام ويمتدحه، ويفخر بأنه الرجل الذي وقع عليه عبء تلاوة بيان "التصحيح".
تقول معلومات "زمان الوصل" إن "محمد قطان" الذي تلا بيان انقلاب الأسد الأب، يعيش اليوم مقتربا من سن الثمانين عاما، على ذكريات الأيام التي قضاها في الإذاعة والتلفزيون، متدرجا فيها حتى تسنم منصب مدير التلفزيون.
"قطان" الذي ولد أواخر ثلاثينات القرن الماضي، استطاع في أواسط خمسينات نفس القرن (أي عندما كان مراهقا) أن يدخل الإذاعة السورية، بالتزامن مع دخوله حزب البعث، وهو بهذا المعنى شخص من "الرعيل الأول" في هذا الحزب، الذي انقلب حافظ باسمه وتحت بعباءته.
وبمرور السنوات وضع "قطان" رجله الأخرى في التلفزيون، ليصبح مذيعا فيه، وعندما حلت سنة 1970، كان الرجل يتولى منصب "رئيس شعبة التنفيذ والمذيعين"، وكان كما يقول في إحدى شهاداته موجودا في الاستديو مع "مهران يوسف" (دون أن يسميه)، فقدم إليهم مجموعة من الضباط طالبين قراءة بيان الانقلاب، فاستنكف "مهران" الذي كان المطيع الرئيس واصفا الأمر بأنه انقلاب، فما كان من "قطان" إلا أن "صحح" له على الطريقة البعثية وقال له "بل هو تصحيح".
ومع تلكؤ زميله، لم يدخر "قطان" الفرصة وانبرى للأمر سريعا، وبما إنه لم يكن مبرمجا له أن يظهر على الشاشة ذلك المساء فقد استعار ربطة عنق "مهران"، واندفع بحماسة "الرفيق الحزبي" وقرأ بيان انقلاب الأسد 3 مرات وليس مرة واحدة فقط، مدعيا أن "مهران يوسف" رجاه فيما بعد أن يعطيه البيان ليقرأه مرة أخرى، وهكذا كان، فتمت قراءة البيان للمرة الرابعة ولكن بصوت مهران.
ويقر "قطان" بنفسه أنه انتهك قوانين التلفزيون وتخطى مسؤولياته عندما قرأ بيان الانقلاب، وأن مدير التلفزيون حينها "عطية الجودة" اتصل به مستنكرا ومستفهما منه عمن أعطاه الأمر بقراءة البيان، فرد عليه: أمرني حزبنا.. ليرسخ بذلك قاعدة الحزب أعلى من الجميع.. الوطن للحزب، والحزب لقائده!
*رواية طلاس
وهنا نفتح قوسين، لنقول إن رواية "قطان" بخصوص قراءة بيان الانقلاب، تتعارض في بعض تفاصيلها مع رواية قدمها "مصطفى طلاس" شريك حافظ الأول في الانقلاب، حيث ادعى "طلاس" في شهادته على هذا يوم الانقلاب بالذات أنه ذهب بمفرده إلى التلفزيون ودون مرافقة أحد، وأنه سلم البيان إلى "مهران يوسف" الذي استمهله قليلا حتى "يشكله"، ثم تلاه في تمام الثامنة والنصف.
ومع ذلك، تبدو رواية "قطان" بخصوص تحمسه وتلاوته لبيان الانقلاب أولاً هي الرواية الأرجح، عطفا على المكافآت التي انهالت على "قطان" لاحقا، حيث تم ترفيعه ليكون مدير التلفزيون، ومن منصبه هذا أشرف على كل أنواع الدعاية لـحافظ الأسد، بنفس أسلوب "الطبل والزمر" الذي رسخه انقلاب 8 آذار في حياة السوريين، والذي انتظرنا نحو 6 عقود لنسمع توصيفه العفوي والدقيق على لسان عضو مجلس الشعب "محمد قبنض".
ولاحقا لوظيفته مديرا للتلفزيون أسندت له إدارة المؤسسة العامة للإعلان، كما منح كرسيا في جامعة دمشق، درس من خلاله مادة "الأدب العربي" لطلاب قسم الصحافة طوال 12 عاما (من 1983، حتى 1995).
ومن المثير للانتباه والشفقة أيضا، أن "قطان" هو الذي توسط لعملاق الإذاعة "يحيى الشهابي" من أجل أن يحظى ببضع ساعات يدرس فيها مادة "الإلقاء" لطلاب الصحافة، علما أن "الشهابي" وقبل انقلاب البعث في 1963 وانقلاب حافظ في 1970، كان علماً في الإذاعة والتلفزيون يزكي ولا يُزكى (كان الشهابي أول صوت ينطلق من إذاعة دمشق، والرجل الذي أذاع نبأ استقلال سوريا)، بل إنه كان مدير التلفزيون الذي رعى "المراهق" قطان وأشرف عليه شخصيا.. وهنا يتجلى معنى آخر من معاني الانقلاب المريرة.
*رئيس النافذين
وعلى أي حال، فإن خدمات "قطان" الدعائية التي أسداها للأسد، لم تكن الوحيدة، ففي حياة هذا الرجل ما هو أخفى وأخطر، مجسدة بالصلاحيات التي تولاها في حزب البعث.
ففي مطلع الثمانينات، وبينما كان حافظ مستميتا في استخدام كل سلاح لتثبيت حكمه وقمع كل من يعارضه ولو بكلمة، كان الحزب بشعبه وفرقه ومنتسبيه من قياديين وأعضاء، من أهم أدوات التجسس والاختراق والاعتقال بل وحتى القتل، عبر كتائب البعث التي انتشرت في كل مكان، والمسدس الذي لم يكن يغادر "خصر" عشرات الآلاف من البعثيين.
وفي هذه الأجواء، تجددت ثقة حافظ وبعثه بـ"قطان" ووقع عليه الاختيار من بين كثيرين ليكون أمين أهم شعب الحزب في العاصمة (شعبة الميدان)، حيث كان قمع هذا الحي الدمشقي وما زال أولوية عند نظام الأسد (تشهد بذلك أحداث الثورة السورية الحالية).
وما هي إلا سنوات قليلة، حتى تم إسناد وظيفة أشد خطورة وحساسية لـ"قطان"، حيث تم تعيينه أمينا لأكبر شعبة حزب في عموم سوريا، وهي شعبة "الموظفين المركزية".
ولندرك باختصار خطورة منصب "قطان" في رئاسة هذه الشعبة، يكفي أن نعرف أن هذه الشعبة هي الحاضن الرئيس لـ"الفرق الحزبية" التي تضم البعثيين العاملين في أهم مفاصل البلاد، بدءا من القصر الجمهوري ومجلس الوزراء ومجلس الشعب، مرورا بالوزارات المختلفة، من داخلية وخارجية و... أي إن "قطان" كان المسؤول الحزبي المباشر عن كل هؤلاء النافذين في النظام.
وقد مكث "قطان" في منصبه الحساس هذا 8 سنوات متلاحقة، كان فيها مطلعا على أشد مراسلات النظام سرية، ومشاركا في تمرير وتصدير كثير من إجراءات القمع والإرهاب، التي كانت تصاغ في دهاليز النظام وحزبه على شاكلة "قوانين"، ثم تدفع إلى مجلس الشعب ليبصم عليها دون نقاش.
زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية