أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

فنان سوري يروي تجربته في العزف وصناعة الأعواد داخل سجن "صيدنايا"

ساهم "أسعد شلاش" في إقامة أصبوحات موسيقية عدة بعيداً عن رقابة السجانين - زمان الوصل

في "بطن الغول" ووسط عتمة الزنازين كان معتقلو "صيدنايا" في فترة الثمانينات يحاولون تخفيف آلامهم، وفتح كوة من النور والأمل تبقيهم على صلة معنوية مع العالم الخارجي.

ودأب بعض المعتقلين على ممارسة هوايات فنية وأدبية متعددة كالمسرح والموسيقا والشعر وغيرها، ومن هؤلاء المعتقل السابق "أسعد شلاش" خريج معهد موسيقي في حلب وأحد فناني سجن "صيدنايا" الذين أبهجوا معتقليه بأنغامهم وموسيقاهم الشجية والرهيفة لسنوات من خلال عزفه على أعواد اعتاد على صنعها بمساعدة رفاقه المعتقلين وبإمكانيات بسيطة جداً ليُخرجهم من سجن المكان والجسد وينسيهم أجواء الجحيم التي كانوا يعيشونها، وإن كانت لا تقارن البتة بظروف معتقلي الثورة فيما بعد.

اعتقل "شلاش" مع عوده الذي كان يعزف عليه في عرس شعبي لأحد أصدقائه بمدينة "سراقب" بتاريخ 10 تشرين الأول أكتوبر/1987 ضمن حملة شنها النظام على أعضاء ومناصري حزب العمل الشيوعي، وآنذاك كما يروي لـ"زمان الوصل" كان قد خرج من الحفل حاملاً عوده متفادياً ازدحام الحاضرين، وكانت نشوة الغناء والموسيقا لا تزال تداعب خياله، حينما صافحه أحد الأشخاص وضم يده بقوة وهو يقول له "كنا نأمل منك أن تغني للبعث وللرئيس، أما أن تحرّض على البعث والرئيس بأغانيك فهذا ما لم نكن نتوقعه"، وهنا جاء عنصران وأدخلاه عنوة إلى سيارة "استيشن" مع الضرب والكلام البذيء، وتم اقتياده -كما يروي- إلى فرع الأمن العسكري في محافظة إدلب، وفي اليوم التالي تم ترحيله إلى حلب ليقضي ثلاثة أيام في فرع الأمن العسكري قبل أن يتم ترحيله ثانية مع مجموعة من المعتقلين الآخرين إلى فرع الأمن العسكري في دمشق، ومن ثم إلى فرع فلسطين حيث أمضى ستة أشهر وكان مع حوالي 60 معتقلاً في غرفة واحدة لا تتجاوز مساحتها الـ 4×4 م. 

في المهجع الثامن من الفرع سيئ الصيت وبعد أشهر من الانقطاع عن العزف استعاد "شلاش" عشقه للموسيقا، وتمكن -كما يقول- بمساعدة معتقل لبناني كان رئيساً للمهجع من صنع عود كان عبارة عن طنجرة صغيرة يسميها العامة "طبوقة" أدخلت إلى أحد المعتقلين بالواسطة، وأُضاف إليها زنداً كان عبارة عن قطعة خشبية من صندوق "سحارة" تم صقلها بواسطة قطعة زجاج، وزودها بأوتار من خيطان جوارب بعد جدلها، واعتاد العزف على هذه الآلة العجيبة أوقات الصباح أمام عدد من رفاقه المعتقلين إلى أن يحين تقديم الإفطار لهم.
ولفت محدثنا إلى أنه كان حريصاً على المحافظة على تكنيك الإصبع في العزف وتقنيات العود والريشة لاستدراك ما فاته من الخبرة والمعلومات قبل أن يفقد حريته.

وأُودع "شلاش" بعد ذلك في فرع التحقيق العسكري بدمشق لمدة شهر قبل أن ينقل إلى سجن "صيدنايا" وهناك لاحظ أن بعض المعتقلين القدماء كانوا يصنعون أعواداً عبارة عن خليط من أطباق البيض التي يتم نقعها بالماء مع ورق الجرائد وقليل من عجين الخبز والملح، ولم تعجبه هذه الطريقة فقرر أن يصنع أعواداً بنفسه، وكان أول عود يصنعه بشكل مستطيل من خشب صناديق الخضار بعد أن قام بتنظيفها ولصقها بالغراء الذي كان بحوزة أحد رفاق زنزانته، وآثر أن يكون زند العود متحركاً وغير ثابت خشية حملات التفتيش المباغتة للسجانين، أما الأوتار فكانت عبارة عن خيطان جوارب بلاستيكية كان ينسلها من الحرامات القطنية التي كان يتغطى بها المعتقلون، وبعد فترة تمكن عبر أحد أصدقائه في الخارج من إدخال طقم أوتار فرنسية استعاض بها عن الخيطان البلاستيكية ليكون العزف بها مقبولاً إلى حد ما. 

في أحد الليالي كان "شلاش" يعزف على عوده بهدوء بعد منتصف الليل ففوجئ بالسجان يراقبه من الشراقة وهي الفتحة المخصصة للتنفس أو مراقبة المعتقلين منها فحطم السجان العود وتم اعتقال "شلاش" في زنزانة انفرادية لمدة شهر. 

ولفت محدثنا الذي يعيش في "السويد" اليوم إلى أنه كان يركز على الارتجال والتكنيك لعدم وجود نوط، وكان يعزف الأغاني الشعبية لكن بتوزيع وتصرف جديد إلى جانب بعض الأغاني الثورية لسميح شقير ومارسيل خليفة وغيرهما، وبدأ المعتقلون يُدخلون بعض النوط من أصدقاء لهم خارج السجن، وتمكن -كما يقول- من افتتاح عدة دورات لتعليم العزف والموسيقا والمقامات.

ويصف الكاتب والمعتقل السابق "مالك داغستاني" الذي كان معتقلاً مع "شلاش" في ذات الفترة في شهادة له هذه الدورات قائلاً: "في جناحنا الجديد سجل العديدون أسماءهم لدورة العود، وتم الاتفاق على أن يقوم أسعد بتدريس كل مجموعة في مهجع إقامتهم، بدأت الدروس ومعها بدأت ورشات تصنيع الأعواد ليصبح لدى كل مهجع عود واحد على الأقل.

بعد الدرس كان المتدربون يتقاسمون بالدور ساعات النهار ليقوم كل منهم بالتدرب على العود الخاص بالمهجع".

كما ساهم "أسعد شلاش" في إقامة أصبوحات موسيقية عدة بعيداً عن رقابة السجانين.

ولفت إلى أنه كان يختار أماكن بعيدة نسبياً عن الباب، وكانت تتخلل هذه الأصبوحات داخل السجن مقاطع ارتجالية، وكان بعض المعتقلين -حسب قوله- يعزفون إلى جانبه على آلات "البزق" و"الغيتار" و"الناي" التي تم تصنيعها داخل السجن بطريقة مشابهة للعود. 

في آذار مارس/1994أفرج عن "شلاش" بقرار من محكمة "أمن الدولة" العليا بعد أن أمضى ستة سنوات وسبعة أشهر، ورغم مرور زهاء ربع قرن على تجربته المريرة لا يزال المعتقل الستيني يعيش خيالات تلك التجربة الممزوجة بالتوق إلى الحرية والرغبة بالحياة وهنيهات الأمل والشجن قابعة في ذاكرته.

فارس الرفاعي - زمان الوصل
(165)    هل أعجبتك المقالة (176)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي