أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

مفهوم الإرهاب ومصيدة التفسير الواسع*

أرشيف

حين اندلعت الثورة السورية ربيع عام 2011، سارَعَ النظام إلى مواجهتها متوسلاً لذلك بالأسلوب الأمني القمعي، وأسلوب التشويه الفكري والقيمي للثورة والثوار معاً، فتارة وصفَ المتظاهرين بالمندسين وأخرى بالمخربين، إلى أن وجد ضالّته بالإرهاب كتهمةٍ يُصوّبها باتجاه كلّ مَن عارَضه، راكباً موجةً عالمية ً سائدة علّها تكون له من مأزقه مخرجا.

ولذلك استنفر النظام كلّ مؤسساته بما فيها التشريعية لتسنَّ بحكم وصايته الشاملة عليها قانوناً، تمّ إعداده في مطابخ الأجهزة الأمنية، سُمّيَ قانون الإرهاب الذي صدر تحت الرقم 19 لعام 2012.

ولعلّه من المفيد في هذا المقام وقبل الولوج إلى التفاصيل أن نذكّر بالنواحي التالية المتعلقة بهذا القانون:
1 - خلا هذا القانون فيما نعلم من الأسباب الموجبة له، كما عليه العرف القانوني عند إصدار أيّ قانون جديد.
2 - إنه قانونٌ جزائيٌّ استثنائيٌّ خاص، لأنّ الأصل أنّ قانون العقوبات العام هو الذي يحدّد الجرائم وعقوباتها.
3 - بالرغم من أنّ قانون العقوبات السوري العام تضمّن فصلاً حدّد فيه مفهوم الإرهاب والأعمال الإرهابية وعقوباتها، إلا أنّ المشرِّع الحالي التّابع للنظام تجاوز ذلك ليصدر قانونا خاصاً بالإرهاب لم يفطن إليه إلا بعد اندلاع الثورة السورية،
4 - إنّه قانون مختلط: بمعنى أنّه يُطبّق على المدنيين والعسكريين على حدٍّ سواء، واستحدث لمحاكمتهم محكمة استثنائية خاصة تدعى محكمة الإرهاب مقرها في دمشق. 

على خلاف السّائد في القوانين الجزائية في كل دول العالم، بتطبيق قانون العقوبات العام على المدنيين، وقانون العقوبات العسكرية على العسكريين.

وبالعودة إلى متن القانون المذكور نقعُ على مفهوم الإرهاب من وجهة نظر المشرِّع والتي ما هي إلّا وجهة نظر النظام، وقد آثرتُ اجتلاباً للفائدة إيراد نصّ المادة المرادة كاملاً باعتبارها ستكون منعقد بحثنا.

فقد عرّفت المادة الأولى من قانون مكافحة الإرهاب (العمل الإرهابي: بأنه كلّ فعلٍ يهدف إلى إيجاد حالةٍ من الذعر بين الناس أو الإخلال بالأمن العام أو الإضرار بالبنية التحتية أو الأساسية للدولة، وتُرتكب ُباستخدام الأسلحة أو الذخائر أو المتفجرات أو المواد الملتهبة أو المنتجات السامة أو المحرقة أو العوامل الوبائية أو الجرثومية مهما كان نوع هذه الوسائل، أو باستخدام أيّ أداةٍ تؤدي الغرض ذاته).

لدى تحليل التعريف نذكر:
-الجمع بين اتجاهين: يسود الفقه القانوني في معرض تحديد مفهوم الإرهاب اتجاهان أساسيان، حدّدت الدول مفهوم الإرهاب استناداً إلى أحدهما دون الآخر.
الأول-مادي: انصبّ نحو تحديد السلوك أو الفعل المكوّن للجريمة الإرهابية.
الثاني - معنوي: وهو يعرّف الإرهاب استناداً للغاية أو الهدف الذي يرمي إليه الإرهابي من عمله.
أما القانون السوري فقد تبنّى الاتجاهين معاً، ولا تخفى الغاية من ذلك وهي ضمانُ التوسع حتى تشمل الصفة الإرهابية أكبر قدرٍ ممكن من الأفعال والسلوكيات التي يعتبرها إرهابية من أجل عدم إفلات أيٍ معارض، من الملاحقة والعقاب.

ولا نستغرب هذا إذا ألحقتا ظروف وتاريخ صدور القانون بالثورة السورية.

على سبيل الخَيال: بالعودة إلى المادة الأولى المذكورة أعلاه نقرأ "العمل الإرهابي" (كل) فعل، فكلمة كل عامة مجملة جزافية مطاطة.
ثم بالمتابعة نقرأ حين تحديد المشرِّع هدف الفعل الإرهابي تعدادا متتالياً مسبوقاً بالحرف (أو) ...الخ المادة.

نلاحظ أنّ هذا التعداد ورد على سبيل المثال لا الحصر ، إنّ ما ذكرناه يخالف ما هو راسخٌ في القوانين الجزائية التي تتسم عباراتها بالدقة والوضوح والحصر القاطع للمعاني دون ترك ثغرات تسمح باستطالة التفسير.

إن كل ذلك يدلّ على أنّ مشرّع النظام تعمّد ذلك، من أجل تركِ باب التجريم مفتوحاً أمام ما قد ينتجه خياله من أفعالٍ تضمنُ له مثل هذه الصِّياغة إلحاق َصفة الإرهاب بها وتجريمها.

-غموض المفهوم واتساع التفسير: بات من الواضح أنّ سبب إيراد مشرِّع النظام لمفهوم العمل الإرهابي بصورة عامة وغامضة وفضفاضة، إنما تعكس رغبة النظام في تحقيق أهدافه السياسية بقمع كل الأفعال التي يعتبرها إرهابية من وجهة نظره من جهة، ولتبرير الانتهاكات التي قد يرتكبها بحق الأشخاص بزعم أنهم إرهابيون من جهة أخرى، إنّ من الأصول المقررة في القوانين الجزائية أن يكون الفعل المجرّم معرّفاً واضحَ العناصر ومُحدَّد الماهيّة بشكلٍ دقيق، أما وروده مبهماً غير دقيق يجعل من التعريف غير صالحٍ للتعويل عليه في التجريم والعقاب بسبب:
1 - إنّ ذلك يُعدُّ مخالفة لقاعدة التفسير الضيق للقوانين الجزائية، منعاً من إضافة أفعال غير مجرّمة في خانة التجريم.
2- لأنّ ذلك يمنح الحرية للسلطة في تفسير القانون كما تشاء، على اعتبار أن التحديد الدقيق للمفهوم هو قيدٌ على السلطة، فترك المفهوم غامضا فضفاضا، كما عليه الحال في قانون الإرهاب السوري سيفتح باب التفسير على مصراعيه من قبل الجهاز القضائي السوري الواقع تحت وصاية النظام الأمر الذي سيؤدي إلى دخول عوامل شخصية وغير موضوعية أثناء التغيير تختلف من قاضٍ لآخر حسب ثقافته وعقيدته وربما موقفه الشخصي من الإرهاب وهذا ما يتنافى مع الموضوعية والحيادية والنزاهة المفترضين في القاضي.

إنّ ما سبق ذكره سمح في الواقع العملي لمحكمة الإرهاب بإدخال أعمال ذات طابعٍ إنساني في عِداد الأعمال الإرهابية، كجمع التبرعات لشراء أغطية للنازحين تقيهم البرد، وتقديم الأطباء والممرضين العلاج للمرضى وإدخال المواد الغذائية والأدوية للمحاصرين، أو حتى حفر القبور للشهداء أو انتشال جثث الشهداء والجرحى من تحت الأنقاض.

استغلّ النظام السوري المفهوم الواسع والمطاط للإرهاب للزّج بكل معارضٍ له في ظلمات المعتقلات، وهذا يشكل خرقاً لحقوق الإنسان وحرياته، ولهذا تبرز الحاجة بشكلٍ ملحٍّ إلى تحديد عناصر وماهية الفعل الإرهابي بشكلٍ واضحٍ ودقيقٍ، كي لا يظلّ المفهوم الواسع للإرهاب الذي فرضه النظام. 

عبارة عن مفخخاتٍ قانونيةٍ تنفجر عن بعدٍ بوجه أيِّ شخصٍ يريدون.

*سليمان النحيلي - من كتاب "زمان الوصل"
(146)    هل أعجبتك المقالة (150)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي