الخبر الذي نشرته "وكالة سمارت" عن قيام إدارة المشفى الوطني في مدينة حماة بإرسال ثلاث جثثٍ تظهر عليها آثار تعذيب إلى طلاب كلّية الطبّ البشري لاستخدامها في دروس مادَّة التشريح... لم يعد خبراً استثنائياً في الجريمة والرعب حين يكون الحديث عن سوريا اليوم.
قبل هذا الخبر قرأنا منشوراً، لشدَّة قسوته بدا غيرَ قابلٍ للتصديق، عن طالبة طبّ سوريَّة فقدتْ وعيها -وربّما عقلها- حين فوجئت بجثَّة أخيها المعتقل ممدَّدةً أمامها على طاولة التشريح!
وخبرٌ ثالثٌ، قبل هذَين، عن استعمال الجلَّادين السوريين للبطاقات الشخصية لضحاياهم الذين قضوا تعذيباً على أيديهم!
أخبارٌ وحشيةٌ صار الواحدُ منَّا يقرأ أحدها، ثمّ ينتقل -بتلقائيةِ المستسلم- لقراءة الخبر الذي يلي. صرنا نتصفَّح أخبار الأهوال في بلادنا كما نتصفَّح كتاباً ألَّفه الآخرون عن حياتنا.
لم تصبح الجريمة وحدَها مفردةً عاديةً في قاموس حياتنا اليومي كسوريين، بل صار التفنُّن في الجريمة شيئاً عادياً أيضاً.
كان خبر اعتقال إنسانٍ يثير فينا كلَّ مشاعر الغضب. كان خبر إطلاق الرصاص على متظاهر أعزل يُخرجنا عن طورنا. كان كلّ ما يمسّ عيوننا وأسماعنا يمسُّ إنسانيتنا وردود أفعالنا.
ولكنْ مع توالي الجرائم والكوارث، ومع تعاقب الزمن والدم، ومع مرور الوقت وتجاهل العالم... تمَّ تشويه الجزء الأكثر فاعلية في إنسانيتنا. تمّ تكسير العظام في ردود أفعالنا حتى غدت مجرَّد أشكال عديمة الفائدة من الرخويات.
والمخيف أن الطريقة التي تمَّ فيها تدمير قدرتنا على ردّ الفعل... لا تقلّ وحشيةً عن الطريقة التي تمَّ فيها تدمير مدننا وقُرانا.
عطّلوا حواسنا بالرعب: رائحةُ الدم عطَّلت حاسّة الشم، وأصواتُ القصف عطَّلت حاسّة السمع، ومشاهد الأنقاض عطَّلت حاسّة البصر، وكثافة طعم المرارة عطَّلت حاسّة الذوق، أما حاسّة اللمس فتكفَّل في تعطيلها الغياب.
لقد جعلونا نعتاد. فاعتدنا على كلّ أنواع الجنون التي حكمت مصائرنا. اعتدنا على أن يكون موتنا عجيباً كحياتنا. اعتدنا على أن تكون أجسادنا طعاماً لأسماك البحار التي غرقنا فيها إبَّان رحلة لجوئنا. اعتدنا على أن تكون قبورَنا سطوحُ بيوتنا التي كنَّا نسهر فوقها.
مرض الاعتياد الذي أصابنا كشعبٍ منكوبٍ، أصابَ قدرتنا على فهم ما يجري حولنا، وأصابَ جهازنا العصبيّ بالعطب، ومدَّدَنا على الطاولة ذاتها، إلى جانب الجثث التي عليها آثار تعذيب، والتي أمروا طلبة الطبّ التمرُّن على تشريحها.
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية