يرتبط القانون في أيّة دولةٍ بمجتمع هذه الدولة ارتباطا وثيقا، ومن المبادئ الرّاسية في الفقه القانوني، أنّ القانون وليد حركة المجتمع ومرآةٌ له.
وبالتالي، فإنّ الغاية من القوانين ليس مجرّد سنّها، بل من المفترض في أيّ قانونٍ أن يكون له أهداف وغايات عليا عامة على الصّعد كافّة ومنها الصعيد الاجتماعي، تتمثل في توطيد روابط الاحترام والثقة والتّعاضد بين أفراد المجتمع على اختلاف مكوناتهم وتنوّعهم، وكذلك في إزالة كل مسبّبات الضغينة وعدم الثقة والعنصرية فيما بين المكونات كافة، وصولاً إلى تحقيق الاستقرار الاجتماعي والعيش المشترك الإيجابي وتعزيز الانتماء بالمواطنة والكرامة الإنسانية.
فهل حقّق قانون مكافحة الإرهاب هذه الغايات بعد مرور سبع سنواتٍ على صدوره ودخوله حيّز التطبيق؟
إنّ نظرةً معمّقةً لواقع المجتمع السوري بعد صدور قانون الإرهاب رقم 19 لعام 2012 الصادر بعد اندلاع الثورة السورية ربيع 2011 توضّح لنا أنّ هذا القانون قد فشل فشلاً محضاً في تحقيق الغايات الاجتماعية المرتجاة من أي قانون، حيث برزت آثاره السلبية واضحة على بنية المجتمع السوري وظهر هذا الفشل من خلال:
أولاً - من الناحية البنيوية للقانون والظروف المرافقة لصدوره:
يُصنّفُ هذا القانون من القوانين الجزائية الاستثنائية، وقد صدر بعد انطلاق حراك شعبي سلمي عمّ محافظات وبلدات سورية كافة، حيث وجد النظام أن ذلك الحراك يهدد مصالحه ووجوده، فقرر مواجهته بكل الوسائل، وسوّقَ إعلامياً أنّه إنّما يواجهُ إرهاباً لا ثورةً شعبية ًمطلبيةً، وبما أنّ أعضاء البرلمان ليسوا سوى موظفين تابعين للنظام، فكان من الطبيعي أن يمرروا قانونا يتبنى توجهات السلطة الحاكمة في قمع الثورة، ولا يعبّر بالتالي عن حركة المجتمع.
ثانياً -من الناحية الواقعية
أحدثَ القانون واقعاً من عدم الثقة والحذر والتنافر بين مكونات المجتمع السوري ولّدت شروخا ً نفسيةُ وانقسامات اجتماعية حادة في بنية المجتمع السوري.
وقد تجلّى ذلك في الصّور التالية:
1- اتجاه رأسي: فبموجب قانون مكافحة الإرهاب وُجّهتْ افتراءً تهمة الإرهاب لشعبٍ لمجرّد مطالبته بحقوقه، إن ذلك عمّق أزمة عدم الثقة الموجودة أصلاً بين النظام والشعب.
2- اتجاه قاعدي جماهيري: قبل صدور القانون، كان يُقال عن شحص ما بين الناس إنه معارض أما بعد صدوره فقد باتَ يُشار بإصبع الاتهام بأنه إرهابي، وعليه صار من المتوجب قانوناً التبليغ عنه وفقاً المادة 10 من قانون مكافحة الإرهاب.
3 - تعزيز حالة العداء والاقتتال بين أبناء الشعب السوري: إذ إنّه قبل صدور قانون الإرهاب، كان النظام يعتمد في قمع الحراك الشعبي على مجاميع الشبيحة، لكن بعد صدوره، عمد النظام إلى قوننةِ ممارسات عصابات الشبيحة حين أنشأَ ما يسمى "جيش الدفاع الوطني" كفصيل عسكري حكومي يعمل بإمرة جيش النظام، ويتلقى تدريبه وتسليحه وتمويله منه.
لقد حرّض النظام أبناء الشعب السوري المعروف بتنوعه، وتسامحه وتاريخ ِالعيش المشترك الضارب جذوره في الأجيال على قتال بعضهم في جوٍّ مشحون من الطائفية البغيضة، الأمر الذي أحدث َ قطيعةً بين هذه المكونات وشروخاً لم يشهدها المجتمع السوري على مرِّ تاريخه.
ثالثا- زعزعَ القانون المنظومة الأخلاقية والأعراف والتقاليد الإيجابية الرّاسخة في المجتمع السّوري.
تلك المنظومة القائمة على روح التكافل والتضامن فيما بينهم في الملمّات، وإغاثة الملهوف.
ويكفي للدلالة على ذلك أن نذكر أنه تمّت ملاحقة آلاف السوريين بتهمة الإرهاب لقيامهم بجمع التبرعات لشراء الأغطية لإخوانهم النازحين لتقيهم شرّ البرد، أو ملاحقة الأطباء والممرضين لقيامهم بواجبهم المهني والإنساني بإسعاف متظاهر مصاب برصاص قوات أمن النظام، وملاحقة "أصحاب الخو ذ البيضاء" (الدفاع المدني) الذين حصلوا على جائزة "نوبل" الرديفة للسلام، والذين لوحقوا بتهمة العمل الإرهابي لمجرد قيامهم بانتشال المصابين والجثث من تحت الأنقاض، ولعلّ أغرب تهمةٍ هي ملاحقة من شاركَ في تشييع الشهداء أو حفر قبورهم بجرم الإرهاب.
رابعاً- اختلال البنية العُمْرِيَّة للمجتمع السوري
وتجلى ذلك في النقص الهائل في أعداد الشباب من الفئة العمرية بين 18-45 عاماً من المجتمع السوري، وهذا بالطبع تزايد في ظل قانون الإرهاب الذي أتاح للنظام توقيف الشبّان بشكل عشوائي واسع على شاكلة التهم المذكورة أعلاه، وذلك من أجل سوقهم للخدمة في جيش النظام، خاصةً بعد النقص العددي في جيشه بعد تحول الثورة إلى العمل العسكري، وانشقاق الآلاف من جنوده، ومن أجل تفتيت الحاضنة الشعبية، أضف إلى ذلك أن كل تلك المعطيات والواقع الذي خلقه القانون القاسي الأحكام دفع بالآلاف من الشبان إلى الهجرة خارج البلاد.
خامساً -استشراء الفساد والرشوة والابتزاز المالي
فتح القانون المذكور الباب على مصراعيه لاستقراء الفساد وذلك بحسبان ازدياد أعداد المعتقلين، وبأنّ أحكام القانون تصل إلى الأشغال الشاقة المؤبدة والإعدام، حيث بات أهالي المعتقلين يدفعون كل أموالهم وفي كثير من الأحيان يضطرون لبيع كل ممتلكاتهم وأراضيهم من أجل دفع الرشى لمعرفة مصير أبنائهم في السجون، ولتأمين الموافقة على إخلاء سبيلهم، الأمر الذي جعلهم ضحيةً للابتزاز المالي والمعنوي معاً، لقد كان هذا القانون فرصةً ثمينة لرجال الأمن وغيرهم لتعزيز ثرواتهم.
سادساً - حرمان أُسر الموظفين المتهمين بجرم إرهابي من مصدر العيش.
وذلك حين نصّ القانون على: 1- تسريح العامل أو الموظف الذي أُدين بجرمٍ إرهابي من الخدمة ومن كل راتب أو معاش تقاعدي أو تعويض وكم سُرِّحَ من موظفين تنفيذاً لهذا النص، فكان ذلك حكماً حدد الموظف بالاسم لكنه شمل في آثاره أفراد عائلته وأطفاله الذين يعيلهم فوقعوا في الحاجة والعوز والجوع.
2 - حجز الأموال المنقولة وغير المنقولة للمتهم خلال فترة المحاكمة التي تستمر لسنوات.
3 - مصادرة الأموال المنقولة وغير المنقولة للمحكوم المدان بحكم من محكمة الإرهاب وانتقال ملكية أمواله إلى الدولة.
ولا شك أن المتضررين من هذه حجز ومصادرة الأموال تلك هم أفراد أسرة المتهم الذي يعيلهم.
من هذا العرض يتحقق لدينا أن قانون الإرهاب ليس سوى سهام موجهة إلى المجتمع السوري، زرعت التفرقة والحذر والخوف من الآخر من مكونات المجتمع السوري وأحدثت شروخاً نفسية واجتماعية سيمضي وقتٌ ليس بالقصير حتى تزول.
*سليمان النحيلي - من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية