في رواية (المعطف) للكاتب الروسي الكبير نيكولاي غوغول يصرّ بطل الرواية "أكاكي أكاكوفيتش" على الاحتفاظ بمعطفه رغم الاهتراء الذي أصابه وعلى الرغم من أنه لم يعد صالحا حتى لمزيد من الترقيع، ولا يعود السبب إلى فقر "أكاكي" فقط -كما فسر بعض النقاد- وعدم قدرته على شراء معطف جديد وإنما لقناعته بأن المعطف ما زال يحتفظ بقدرته على أداء مهامه في توفير بعض الدفء ودرء البرد القارس، يضاف إلى ذلك إيمان "أكاكي" المبطن بالحظ فهو يخاف أن يرتبط تغيير المعطف بتغيرات أخرى قد لا تكون إيجابية.
هذه الحالة تنطبق جيدا على حالة معارضتنا السياسية وعلى القيمين على الثورة ومساراتها، فعلى الرغم من وضوح النتائج الكارثية للنهج السياسي -الثوري الذي اتبعته الثورة طيلة السنوات الماضية يصر قادة المعارضة على الاستمرار في ذات النهج ويستميتون في الدفاع عن الاستراتيجيات المستهلكة والفاشلة ويهاجمون كل مطالب التغيير والتصحيح، فهم مثل بطل روايتنا السابقة الذكر يمتلكون القناعة بأن العيب ليس في النهج، فهو قدم وما زال يقدم (الدفء) المطلوب وإنما تأتي المشاكل من خارج الاستراتيجية المتبعة، فتحيل الأسباب مثلا إلى تآمر دول العالم جميعها ودون استثناء على الثورة.
ومع أن في ذلك بعض الحقيقة إلا أنه لا يمثل الأسباب جميعا ولا يحيط بها منطقيا فحتى انقلاب مواقف بعض الحكومات الإقليمية والدولية فإن للنهج الثوري المتبع دوره في تغير المواقف من الثورة ولربما يكون له الدور الأكثر تأثيرا في تقلص الاهتمام الدولي، وخاصة على الصعيد الشعبي وتقلص التأييد للثورة والدليل أننا لم نشهد مظاهرات كبيرة في أي عاصمة عربية أو حتى أوروبية احتجاجا على القتل الهيستيري الذي مارسه النظام على المدنيين وكل ما شهدناه لا يعدو عن كونه تجمعات للعشرات قام بها ناشطون سوريون منتشرون في المدن الأوروبية، ناهيك عن أن كل هذه الجرائم المرتكبة بحق المدنيين لم تدفع أي شعب عربي في أي مدينة عربية على التظاهر احتجاجا، بل إن السوريين المتواجدين في الدول العربية يعرفون أن التعاطف الشعبي مع الثورة السورية مقطوع وأن أعداد لا يستهان بها من الشعوب العربية تميل لصالح روايات النظام، وترى في الثورة مجرد مؤامرة دولية على سوريا (وصمود سوريا ومحاولة لتجزئتها وتفتيتها) في ترديد ببغائي لرواية النظام حول المؤامرة الكونية. إن ذلك لا يعني أن الشعوب العربية تتقاعس عن مد يد العون والتعاطف وإنما هو في الحقيقة يعني بالضبط فشل المعارضة السورية في كسب ودّ الشعوب العرية وشعوب العالم وكل ذلك بسبب النهج الفاشل الذي انتهجته الثورة قياداتها العسكرية والسياسية.
ويكمن خلف هذا التمسك بالنهج المهترئ رغم ثبوت فشله يعود إلى جملة أسباب أهمها ارتهان القرار الثوري لإرادات الدول والجهات الممولة وأيضا في خشية القيادات ذاتها والتي تسيطر عليها القوى الإسلامية من خسارة موقعها في الثورة بعد أن تمكنت من إحكام قبضتها على معظم مفاصل العمل الثوري وهذه القوى لا تريد خسارة هذه الفرصة التي جاءتها على طبق من ذهب خاصة وهي ترى بأم العين خسارة قوى الإسلام السياسي لمواقعها في كل من مصر وتونس وهي في طريق خسارة مكانتها في ليبيا لذلك تتمسك القوى الإسلامية بسيطرتها تلك وتحارب كل تغيير في النهج والسلوك والتفكير خوفا من فقدان هذه السيطرة.
يضاف إلى ذلك وجود حاضنة شعبية لابأس بها لتلك القوى الإسلامية وتزايد شعبيتها (بالرغم من كل الفشل الحاصل).
كما أن التغيير المطلوب قد يكون من شأنه أن يقلل تأثير قوى الإسلام السياسي في المفاوضات مع النظام وبالتالي احتمال خسارتها لبعض المكاسب المحتملة.
على قيادات المعارضة أن تتخلى عن عنجهيتها وغرورها وأن تدير الوجه والسمع إلى الأصوات الأخرى المغايرة والمختلفة وبات لزاما على جميعهم التفكير بطريقة وطنية لا أممية إسلامية أو إسلامية إقليمية والتعالي قدر الإمكان فوق المكاسب الحزبية والخاصة والتخطيط منذ الآن للعثور على طريق مشرف يدفعهم للخروج بأمان من "معطف غوغول".
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية