ما فعله اتفاق درعا بالحديد، يُراد لاتفاق إدلب أن يفعله بالحرير.
اختلال التوازن، الذي تحدَّثنا عنه في المقال السابق، جرَّاء الحضور الواضح للاستراتيجية الروسية في مقابل غياب استراتيجية تركية واضحة في سوريا، انعكس بقوَّة على جوهر الاتفاق.
تركيا وحيدة في سوريا. وحيدة مع 3 ملايين إنسان يواجهون خطر المذبحة الجماعية والتهجير الجماعي. الخيارات أمامها – في ظلّ التوازنات والتحوُّلات الأخيرة - تكاد أن تكون صفراً.
إذا بدأ الروس حربهم التدميرية في إدلب، سيجد الرئيس التركي الذي اجترح نظرية المهاجرين والأنصار في محاولةٍ منه لإعادة تعريف الدور التركي في سوريا بشكل إنسانيّ... سيجد على حدوده مئات آلاف النازحين. إذا فتحَ الحدود لهم سيقع في مشكلة داخلية تركية، وفي مشكلة خارجية مع الاتحاد الأوروبي. وإذا لم يفتح الحدود لهم وظلّوا عالقين بخيامهم ومآسيهم المتلفزة على حدوده، وعلى أبواب فصل شتاء قارس، ستتأذَّى سمعته وسمعة بلاده، ليس لدى السوريين فحسب، بل في عموم العالم الإسلامي.
أمام هذا الواقع المقفل في سوريا، لم يعد لدى الرئيس التركي سوى إعادة ترتيب الخسائر، ولكنْ بشكل دبلوماسي وناعم. وفي سياق إعادة الترتيب هذه جاء اتفاق إدلب.
إنَّ عمليةً سياسيةً ضخمةً – مثل عملية إعادة ترتيب الخسائر – بالنسبة إلى دولة إقليمية كبرى كتركيا، هي عملية معقَّدة جداً لأنها تقع في صلب تقاطعات ومفترقات علاقاتها الدولية. الاتفاق مع الروسي أساسي، تماماً كالاتفاق مع الأميركي. الإيراني لا يمكن تجاهله أيضاً. إنها عملية نزول عن بعض الأشجار من أجل ضمان البقاء على أشجار أخرى. الخسارة المتدرّجة في سوريا يريد الأتراك ثمناً لها فوزاً متدرّجاً في الكيان الكردي الناشئ على حدودها.
في اتفاقيات من هذا النوع ثمَّة دائماً ما يختبئ وراء السطور، وليس بينها فقط. ثمَّة بنود غير معلنة يمكن استجلاؤها من خلال قراءة الظروف والتوازنات التي نضجَ على نارها الاتفاق.
عندما يقول بوغدانوف بأن الاتفاق في إدلب هو "إجراء مؤقَّت"، وعندما يصف لافروف الاتفاق بأنه "خطوة مرحلية"، لا بدَّ أن نُصدِّقهما. فالصانع أفضل من يستطيع وصفَ صنيعه. الروس صنعوا الاتفاق وهم أكثر من يجيد وصفه.
بوغدانوف يقول بأن اتفاق إدلب حاله حال بقية مناطق خفض التصعيد التي أُقرَّت في إطار اجتماعات أستانة والتي كانت أصلاً "إجراءات مؤقَّتة".
ثمَّة شجرة اسمها "أستانة" لم تنتج إلا الثمار المسمومة. وآخر هذه الثمار اتفاق إدلب.
المسؤولون الروس يحاولون القول بأنه ما دام اتفاق إدلب حلقةً من سلسلة اتفاقات مناطق خفض التصعيد، فلا بدّ أن تكون جميع النتائج متشابهة. لدينا مسطرة نقيس عليها. لدينا نموذج يصلح للقياس والمقارنة. ما حصل في درعا دفعةً واحدةً سيحصل في إدلب على مراحل. الفارق تقنيّ فرضته طبيعة الميدان.
المنطقة التي سمَّاها الاتفاق بـ"المنزوعة السلاح" (15 – 20 كم داخل مناطق الثورة) هي في حقيقة الأمر المنطقة الأكثر تحصيناً والتي تُشكّل الدرع أو القشرة المصفَّحة لحماية المناطق المحرَّرة. يحتاج جيش النظام إلى التضحية بالآلاف من جنوده لنزع هذه الدرع الصلبة. الاتفاق يشرع بتفكيكها بلا قتال.
يقوم الاتفاق بتقسيط الهدف الروسي. ما أخذه بوتين في درعا نقداً، يريد أن يحصل عليه في إدلب بالتقسيط. الاتفاق في هذا المعنى هو اتفاق على آلية للدفع بالتقسيط.
سنكون أمام مرحلة تأجيل ثمَّ مرحلة قضم. قضم على مراحل وتحت عناوين مخادعة.
وفي نهاية الأمر سيكون الفارق بين إدلب ودرعا هو الشراكة التركية الروسية في النفوذ.
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية