تناولنا في الحلقة السابقة صوراً عدّة من الفساد القضائي على مستوى المحاكم والقضاة، وبما أنّ القضاة على اختلاف وظيفتهم ودرجاتهم، لا يستطيعون القيام بعملهم، بل ولا يستقيم ذلك دون الاعتماد على ما يسمى قانوناً مساعدون قضائيون، مثل كتّاب المحاكم والدواوين والأطباء الشّرعيين والخبراء على اختلاف اختصاصاتهم (خبراء عقاريون، وخبراء خطوط وبصمات..).
إذ إنّ عملهم يشكّل امتداداً لعمل المحاكم والقضاة، يتبعون لهم تبعية الفرع للأصل، وبالتالي فهم يتبعون ذلك الأصل من حيث الفساد أو الرّشاد، بل وأحياناً كثيرة كانوا شركاء ً ومفاتيح لهم.
وعليه فإنّنا سنعرض لأهم صور الفساد لدى هؤلاء:
1- على صعيد كتاب المحاكم: إن من الواجب على كتّاب المحاكم تحرير مذكرات الدعوى والأخطار لأطراف الدعوى من أجل تبليغهم موعد الحضور والمحكمة الناظرة في الدعوى وموضوع الدعوى وأطرافها، وذلك بموجب نصوص القانون، لكن التعامل الجاري في الواقع غير ذلك، إذ إن الكاتب لا يقوم بها الواجب إلا إذا دفع له الطرف صاحب المصلحة بالدعوة مبلغاً مالياً، يزداد حسب عدد الأطراف المراد تبليغهم وحسب أهمية وعجلة موضوع الدعوى، وكثيراً ما تأخر النظر في الدعاوى لعدم سبق تقاضي الكاتب الرشوة، بل صار التعامل الجاري على هذا الأساس حتى بات عرفاً يشكل الخروج عليه مثلبا في عمل المحامي وتقصيراً منه في عمله، هذا بالرغم من أهم واجباته هو تحرير مذكرات التبليغ.
2- لا يخرج رؤساء دواوين المحاكم عن هذا النهج أيضا، وذلك بتقاضيهم الرشوة لاستكمال إجراءات تسجيل الدعوى أو إجراءات استخراج القرار بعد صدوره، إثر حسم الدعوى من المحكمة، وكثيراً ما كان يقوم رئيس الديوان لدى أي محكمة بإخفاء ملف الدعوى، وخاصة الدعوى التنفيذية لدى دائرة التنفيذ المدني، وعندما يتم تهديده من قبل الطرف المتضرّر برفع شكوى بحقه يظهر ملف الدعوى أو الملف التنفيذي فجأة، ويتذرع هذا الكاتب بأن ملف القضية كان موضوعاً بالخطأ في غير مكانه بسبب كثرة عدد القضايا وضغط العمل.
3 -وكذلك الأمر بالنسبة للمحضرين، فهم مكلفون قانونا بتبليغ أطراف الدعوى على العنوان الوارد في مذكرات التبليغ، لكن المحضر كان يشترط للقيام بواجبه مبلغ رشوة تزيد حسب أهمية الدعوى وعجلتها وبعد موطن المطلوب تبليغه، وكثيراً ما كان المحضر يقوم بالتبليغ بصورة مخالفة للقانون مع علمه بذلك، بسبب قبضه رشوة من الطرف الآخر بالدعوة بهدف المماطلة بالدعوى وكسب الوقت وتفويت المصلحة على خصمه، وكان من الشائع الاتفاق بين المحضر والطرف صاحب المصلحة أن يحرر المحضر على مذكرة الدعوى أن المطلوب تبليغه خارج القطر في لبنان ولا يُعرف له مكان إقامة، وذلك من أجل الوصول إلى أن تقرر المحكمة تبليغه وإخطاره بالصحف، الأمر الذي يكلف الطرف صاحب المصلحة بالتبليغ مزيداً من النفقات والجهد والوقت وعرقلة وإطالة أمد الدعوى.
4-أما الأطباء الشرعيون والخبراء، فقد كان معظمهم يحرّرون تقارير طبية مغايرة للواقع، لجهة مدة التعطيل عن العمل أو لجهة تقدير نسبة العجز، لأن قانون العقوبات يقضي في حال وجود نسبة عجز، ولو كانت واحد بالمئة لدى المصاب، بإحالة الدعوى إلى محكمة الجنايات، حيث يُحاكم المتهم موقوفا بجناية، الأمر الذي يعني تشديد العقوبة بحق المتهم ويستتبع زيادة مبلغ التعويض المحكوم للمصاب بحق المتهم، أما في حال كون الإصابة لا ينجمُ عنها أي نسبة عجز، فيكون الاختصاص لمحكمة الجنح ذات الأحكام الأخف لناحية العقوبة ومبلغ التعويض، وهنا كان يجري التداخل من الطرف صاحب المصلحة مع الخبراء المنوط بهم مهمة تحديد وجود نسبة عجز لدى المصاب من عدمها، ويتم دفع الرشوة لهم.
وحريٌّ بنا في هذا السّياق أن نذكر مثالاً شائعاً كان يجري العمل به، فمن المعروف في قانون العقوبات السوري في جرائم الإيذاء (كالمشاجرة وحوادث السير وغيرهما) أن الفعل الجرمي إذا نجم عنه إيذاء يؤدي إلى تعطيل المصاب عن العمل لمدة عشرة أيام فما فوق، فإن ذلك يستتبع توقيف الفاعل، وإحالته موجوداً إلى المحكمة المختصة، أما فيما لو كانت مدة التعطيل أقل من عشرة أيام، فلا يصدر بحقه مذكرة توقيف، ويتم تبليغه للحضور إلى جلسة المحكمة، وعليه فإنّ ما كان يحصل، أن يقوم المجرم بنفسه أو عبر وكيله القانوني بدفع رشوة للطبيب الشرعي كي يقدّر مدة التعطيل عن العمل بأقل من عشرة أيام.
وكذلك الأمر في باقي أنواع الخبرة المدنية، من قبيل تخمين عقار محل نزاع، أو الخبرة على الخطوط والتواقيع عند الطعن بصحة سند يتضمن حقوقاً مطروحاً أمام المحكمة.
5 ،-وأما الكتاب بالعدل فلا يخرجون عن منظومة الفساد تلك، والغريب أنهم يعتبرونها من أجل القيام بواجبهم الوظيفي بتنظيم الصكوك والوكالات والبيوع وكافة العقود، لدرجة أن الكاتب بالعدل كان يتقاضى مبلغ الرشوة تبعاً لقيمة الحق المراد تنظيم وكالة أو عقد ما بشأنه، سواء تعلق ذلك ببيع عقار أو غير ذلك،
6 -أما رجال الشرطة بصفتهم مساعدي الضابطة العدلية (النيابة العامة)، فحدّث ولا حرج، حيث إن وضعهم معروف للقاصي والداني، إن لجهة تغيير الإفادات في الضبوط التي ينظمونها، أو في التراخي بتنفيذ مذكرة قضائية بإلقاء القبض على محكوم بحكم قضائي يقضي بالحبس، أو توقيف متهم وجلبه إلى المحكمة أو قاضي التحقيق، ودافعهم لكل هذه التصرفات المخالفة للقانون هو فسادهم الأخلاقي وحصولهم على الرشوة.
وختاما إن ّعرضنا لواقع الفساد القضائي في سورية حتى اندلاع الثورة السورية لا يعني توقف الفساد بعدها، فصحيح ٌ أن أعمال المحاكم العادية انحسرت بسبب خروج كثيرٍ من المناطق عن سيطرة النظام، وكذلك الأمر في المناطق التي مازالت تحت سيطرته، إلا أنّ هذا لا يعني بحالّ من الأحوال الحد من الفساد بكافة أشكاله .إذ انتقلت مستويات الفساد لترتفع في قطاع القضاء الاستثنائي بعد إصدار النظام لما سميَ بمحاكم الإرهاب، حيث باتت هذه المحاكم المجال الأرحب لاستغلال وابتزاز الموقوفين وذويهم، وصحيحٌ أنّ هناك بعض الاستثناءات في الجهاز القضائي، إلا أن ذلك لا يغير من السمة العامة له، فالظروف مازالت مستمرة والفساد جارٍ.
من كتاب زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية