توقع الكثيرون أن يشهد الربيع العربي مع ما حمله من شعارات ثورية وتحررية خاصة في مراحله الأولى بروز فلسفة جديدة في الأدب والفن على وجه الخصوص على غرار الحداثة التي ظهرت بعد الثورة الفرنسية وغدت فكرة عالمية تعادل القيمة الحضارية للمبادئ الإنسانية التي أرست دعائمها الثورة الفرنسية تلك الحداثة التي لم تنتهِ إلا مع حادثة "أوشفيتز"، حيث بدأ عصر ما بعد الحداثة إثر الصدمة المروعة التي أصابت العالم بعد اكتشاف معسكر "أوشفيتز" النازي في بولندا والذي شهد إحراق نحو 3 مليون إنسان 99 في المائة منهم كانوا يهودا.
فعلى الرغم من أن الثورات العربية هزت العالم فعلا، وطال أثرها معظم بلاد المعمورة، إلا أن هذا الحدث العظيم لم يشهد ولادة فكر ثوري جديد ولا فلسفة أدبية وفنية جديدة، وكل ما صدر خلال ثماني سنوات لا يعدو عن كونه محاولات بسيطة تتراوح في نجاحها وفقا للظرف وللموضوع، فلا أدب حقيقيا ظهر، ولا فنا بكل أشكاله برز مع أهم حدث تشهده البلاد العربية منذ مائة عام.
وهنا قد يقول البعض إن الوقت لم يحن بعد لبلورة مفاهيم خاصة عن مرحلة الربيع العربي، وإن الموضوع يحتاج بعض الوقت، وربما يكون هذا القول محقا، ولكننا لا نتحدث هنا عن أدب أكمل أدواته ولا عن فن تمكن دراسة شكله وأساليبه ومضامينه، إنما الحديث يدور حول بروز بوادر ظاهرة على الأقل.
كما أنه يجب ألا ننسى أن أدب وفن العبث ظهرا في خضم الحربين العالميتين الأولى والثانية، فمسرحيات "صموئيل بيكيت" على سبيل المثال ظهرت خلال الحرب العالمية الثانية، وبدا واضحا مع كتاباته وآخرين أن الفن في حد ذاته هو موقف من العالم والحياة وانتقاد لما هو قائم وتعبير عن النقص والقلق الوجودي.
لقد أدت المجازر التي شهدتها الحرب العالمية الثانية وعمليات إنتاج الموت وتلال الجثث المكومة إلى ظهور فكرة أن الحياة عبثية، وكذلك أدت الحرب العالمية الأولى دورها في إثبات عدمية الحياة في نتاج النزعة (الدادائية) التي كانت عبثية في كل ما صدر عنها وإن لم يُكتب لها الحياة المديدة كما العبثية.
كل المجازر التي ارتكبها النظام السوري وكل الموت والدمار والتهجير التي شهدتها دول الربيع العربي وخاصة في سوريا وليبيا واليمن لم ينتج عنها إلا القلة القليلة جدا، ولعلها تركزت في التعبير عن فظاعة أساليب التعذيب التي تنتهجها الأجهزة الأمنية ضد معتقلي الرأي في الأقبية المظلمة وسجون القهر، وكأن جرائم النظام لم تكن إلا سجونه.
لقد توجه الكثيرون نحو الفن السينمائي وبخاصة الأفلام القصيرة التي تناول بعضها مشاكل اللجوء والقليل منها أصاب نجاحا ما، ولكن ذلك لم يكن كافيا لتشكيل ملامح شخصية الأدب والفن الثوري، ناهيك عن إهمال باقي الشؤون الأخرى التي لا تقل أهمية، فلن تقرأ رواية أو قصة قصيرة أو تشاهد فيلما يحمل ملامح الكشف أو التحليل، وإنما غلب على الأكثرية الساحقة من النتاج الثوري صفة التوصيف بمعنى إعادة رسم صورة الواقع فنيا أو أدبيا دون أن يحمل هذا النتاج أسئلة وجودية تعنى بماهية الإنسان ذاته وأهميته كهدف أساسي لأي عمل ثوري، كما أنه الركن الأساس في أية توجهات سياسية وعسكرية وثقافية وفكرية.
وحتى على الصعيد الإعلامي لم تقدم الثورة إعلاما قويا يوازي في سويته الفكرية الفعل الثوري الذي هز أركان العالم، فكان إعلاما ضعيفا وصغيرا مقتصرا في رسالته على نشر الفكر الإسلامي المتطرف، أما الإعلام الثوري الممول خليجيا أيا كانت الجهة الممولة، فهولا يحمل فكر الثورة بل يحمل فكر ومصالح الممولين، كما أنه اعتمد على كوادر ضعيفة الخبرة وغير مهنية وتفتقد إلى أبسط قواعد العمل الأكاديمي.
لقد غرق الأدب والفن والإعلام الثوري في الدعوة إلى الله وأهمل الدعوة إلى الإنسان هذا في توقه للحرية وسعيه الحثيث لبناء مجتمع العدالة والمساواة أهملت الثورة الإنسان الذي يجب أن يكون غاية الثورة وحاملها.
لقد انتهت الثورات الإلهية مع النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأنهى الخالق خطابه إلى البشر عبر القرآن الكريم.
لقد أضرمت الحرب العالمية الثانية النار في البشرية وأدت إلى التشكيك في كل معاني وصور الطبيعة الإنسانية ومعنى وجودها، فأنتجت أدبا رفيعا وكتّابا رائعين مازالت البشرية ترى فيهم أعلاما أدبية خالدة يهفو الكثيرون للسير على خطاهم.
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية