أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

رحالة سويسري يروي لنا اسرار مر عليها اكثر من قرنين

كان الرحالة السويسري الشهير جون لويس بيركهارت (الذي عرف فيما بعد بالحاج ابراهيم) قد مر في ديارنا الحبيبة والغالية عى قلوبنا في عام 1812 م وسجل ملاحظات في غاية الأهمية، وقد أصدرت وزارة الثقافة الأردنية قبل عدة أعوام، الجزء الأول من كتابه رحلات في الديار المقدسة والنوبة والحجاز ، وهو من ترجمة الباحث الأردني فيصل أديب أبو غوش، وقد جاء الكتاب في مجلدين من 880 صفحة، وضم مقدمة للمترجم وتعريفا بالرحالة بيركهارت إضافة إلي المذكرات التي كتبت عن الفترة (1809ـ 1814) وتضم تفاصيل رحلته من لندن إلي مالطا إلي حلب ورحلاته بعدها إلي دمشق وحوران ووادي نهر العاصي وحماة ولبنان وطرابلس ونابلس والناصرة وطبريا ووادي النيل وأسوان وبلاد النوبة، وسوف اركز في عرضي هنا علي ملامح من ملاحظاته أثناء مروره في بعض القري والمدن الأردنية في تلك الفترة المبكرة، وكيف كانت أحوالها، وتفاصيل أهلها، فقد مر بيركهارت في مناطق غور الأردن وسهل حوران، وعجلون، والبلقاء، وزار الكرك والطفيلة، ووصل إلي وادي موسي ومعان ودخل البتراء كأول أوروبي يكتشفها، والكتاب الذي يتميز بالسلاسة في النص، وترجمته، والتشويق في عناصر حكايته، يشكل مرجعا نادرا لدراسة تلك القري والقبائل التي كانت تسكنها، وعادات أهلها، وتساهم في فهم تاريخها، وما آل إليه أمرها اليوم، علي أنه من الضروري قراءة الكتاب مجددا، وعرض ملامح أخري توثيقية فيه، بعد النهظه العمرانية والثقافية ذات فائدة للباحثين والمهتمين لتسليط الضوء على حضارة عريقة و اصيلة.

حياته

تقول السيرة الحياتية أن بيركهارت ولد في لوزان بسويسرا، والتحق في السادسة عشرة من عمره بجامعة ليبزج ثم بعد أربع سنوات انتقل إلي جامعة غوتنغن، وكان تقديره مشرفا في الجامعتين، وقد رحل إلي لندن عام 1806 م، والتحق بالجمعية الأفريقية التي كانت ترسل المكتشفين إلي أفريقيا،إذ رغبت في أن ترسل بيركهارت إلي اختراق أفريقيا عن طريق واحة فزان، وكانت الخطة أن يرسل أولا إلي حلب لمدة عامين حتي يتقن العربية الدارجة، ثم يختلط بالبدو لسنة أخري، وبعدها يصل إلي تمبكتو مع قوافل الحج العائدة من مكة عن طريق فزان، وهذا الأمر جعله يدرس العربية أولا في جامعة كيمبرج، وكذلك الدين الإسلامي، إضافة إلي تقمصه شخصية العربي في لباسه، وعاداته، حتي لا يشكك بمقاصده أحد أو يعتبر (افرنجيا كافرا) في تلك الفترة الخاصة، وكان أحيانا في بعض رحلاته يكشف عن هويته الحقيقية لا سيما أمام القناصل الأوروبيين أو الباشوات الأتراك أو الرهبان والقساوسة، وأحيانا يدعي أنه من مسلمي الهند، وأحيانا أنه تاجر، بل إنه سمي نفسه (إبراهيم الشامي) في مواضع أخري، وظل في أغلب سفراته متنكرا في مهمته البحثية، ولا يطلع أحد علي ما يدونه من كتابات أو رسوم أو نقوش حتي لا يتهم بالجنون كما يقول أو أنه من الباحثين عن الكنوز.

كان بيركهارت في الخامسة والعشرين من عمره حين وصل حلب، وقد ذاق الأمرين في رحلاته البرية والبحرية من بعد، فما الذي يمكن أن يضمن سلامة أوروبي شاب يتنقل في الصحراء بين قبائل متحاربة، وجيش انكشاري تركي، وقطاع طرق، ومتمردين علي السلطة، وحرب ضروس في نجد والحجاز بين ابن سعود ومن يناصره من الوهابيين وخصومه؟

لذا كان علي بيركهات أو إبراهيم أن يكون حذرا من الآخرين، وودودا معهم في الآن نفسه، وأن يعرف كيف يتعامل مع كل من يقابله، فهو أمام الأتراك غيره أمام العرب، وعلي كل حال فهو يعتني بالتفاصيل عناية فائقة، ولا ينسي أن يمر علي الطعام والشراب، واللباس، والعادات، وبعض ما يورده أحيانا يخضع لشيء من السخرية، ولكنه في النهاية يورد صورة مشرقة عن المسلمين وعلاقتهم مع المسيحيين مبطلا بذلك ما ورد من إساءات من مستشرقين آخرين.

صناعة ملح البارود في سوف

في الأول من أيار (مايو) 1812وصل بيركهارت إلي الطرة فالرمثا قادما من تل شهاب السورية، ثم توجه مع دليل استأجره إلي سوف عن طريق قمة قفقفا، وقد روي أن الكتة كانت حينها مهجورة من أهلها، (وقد جرت العادة أن يقوم كل بيت بصناعة ملح البارود ويبيع الزائد للأعراب المتجولين في المنطقة، وقد شاهدت في كل بيت هاونا كبيرا لا يتوقف عن الدق أبدا) وهذا الوصف ينطبق علي قري برما، وجزازة ودبين أيضا، وفي اليوم التالي زار خرائب جرش ووصف آثارها بدقة، وبعدها بحث عن دليل يقوده إلي السلط (لم يتقدم أحد ليدلني علي السلط، وذلك خوفا من بني صخر الذين هم في حالة حرب مع أهالي البلقاء وحكومة دمشق حيث لا ينقطعون عن الإغارة عليهم)..

أما عمان فقد وصفها بالخربة التي تسيطر عليها حامية من بني صخر، ورغم أن بيركهارت كان يحمل عدة رسائل توصية لجميع شيوخ البلقاء وقائد الحامية التركية من باشا دمشق إلا أنه كان يخشي علي نفسه من بعض من لا يدين للدولة بالولاء، ولهذا وجدها فرصة ليزور قلعة عجلون وعين جنة وينحدر إلي الشمال باتجاه الحصن، وكان حال هذه القرية بائسا بسبب كثرة الضرائب المفروضة علي أهلها،وتعسف فرسان آغا طبريا، وبعدها واصل مسيرته شمالا باتجاه إربد أو البطين نسبة إلي عائلة البطاينة التي تسكنها كما يقول، ثم واصل مسيره نحو مرو فبيت راس وحبراص (وهي القرية الرئيسية في منطقة الكفارات) والطريف في الأمر أن هذه القرية اليوم ليست كذلك في ظل وجود قري رئيسية مجاورة لها مثل كفرسوم وحرثا وسحم.

زار بيركهارت آثار قويلبة القريبة أو أبيلا وهي من مدن الديكابوليس العشرة وتقع اليوم شرقي بلدة حرثا، ثم سار باتجاه صما وابدر وأم قيس، ووصف آثار المنطقة (معظم سكان أم قيس الحاليون يعيشون في الكهوف الأثرية ويشربون من آبار جمع، وبما أن هذه الآبار قد جفت قبل وصولنا فقد هجر الأهالي قريتهم ووجدناها خالية تماما من السكان).

انحدر بعدها إلي الشريعة التي يقيم حولها عرب المناضرة ويزرعون جانبي النهر بالحبوب والفواكه، وبدت له خصوصية تلك المنطقة الغورية، وقد عبر نهر الأردن باتجاه سمخ التي أمضي بها ليلة عصيبة كما يقول بسبب البعوض والقمل، وغادر في الصباح إلي الحمة وينابيعها المعدنية الكثيرة، وبعضها ما يزال قائما إلي اليوم (أعتقد أنه إذا قام أحد المتخصصين في علوم المعادن بفحص هذه المياه والتربة المحيطة فإني أجزم أن تعبه لن يضيع سدي، وفي شهر نيسان (ابريل) من كل سنة تزدحم هذه الينابيع بالقادمين من نابلس والناصرة للاستشفاء بمائها). ثم زار قرية فيق في منطقة الجولان وقري سورية أخري حتي وصل إلي نوي فالكسوة ودمشق أخيرا.

المهم أن بيركهارت بعد سرده لهذا الجزء من كتابه خصص صفحات للتقسيمات السياسية الواقعة حنوبي دمشق وحتي نهر الزرقاء، حيث سمي القري والحدود التابعة لمناطق الغوطة، وبلاد حوران، وجيدور، والجولان، والقنيطرة، والكفارات، والسرو، وبلاد بني عبيد، والكورة، والوسطية، وجبل عجلون، ومعراض، والزويت، وذكر أن جميع المنطقة الواقعة من القنيطرة وحتي الزرقاء واقعة في حكومة آغا طبريا، كما قدم ملاحظات مهمة جدا علي السكان في حوران ونمط حياتهم.

أهالي حوران كرماء رغم عوزهم

وقد أشار إلي حوران السورية والأردنية معا والدروز الذين يعيشون فيها، رغم أن حوران السورية كانت تحكم من قبل آغا حوران التركي،وحوران الأردنية تتبع لآغا طبريا علي ما يظهر لي في مذكرات الرجل، وأبرز ما يظهره هنا أنه لا يوجد فرق بين المسيحيين والمسلمين في العادات والتقاليد واللباس (... لا يوجد ما يميز بعضهم عن بعض في شيء، ويظهر أن الدين ليس له أي اعتبار يدعو للتمييز بينهم، وكثيرا ما ينحاز المسلمون إلي جانب أحد النصاري في المشاجرات إذا وجدوا أنه مظلوم، كما أن الطرفين يتزاورون
في الأعياد والمناسبات، ونساؤهم تسمر معا علي أبواب البيوت وجوانب الطرقات، وفي الحقيقة أني لم أر أي خلاف بين مسلم ونصراني خلال وجودي في حوران، بل على العكس، فقد شاهدت شجارا حدث بين نصراني كاثوليكي، ونصراني يوناني، وقد تدخل المسلمون لفض الخلاف، كما أن أحد المسلمين قام بذبح خروف ودعا الطرفين لعقد الصلح بينهما في بيته..).



ولعمري فإن مثل هذه النصوص والشهادات خير ما يمكن أن يرد به علي بعض الذين عميت أبصارهم من المستشرقين أو المشوهين الجدد لأمتنا العربية و الإسلامية أو الذين يهرفون بما لا يعرفون عن حوار الثقافات والأديان...


ويسترسل بيركهارت في وصف نمط معيشة الحوارنة، فهم كما رآهم (متساوون في نمط معيشتهم، فقيرهم وغنيهم، فهم متساوون في الملبس والمأكل والسكن، ولا يظهر غنيهم شيئا من ثروته إلا إذا حل أحد الضيوف في بيته فهو يحاول تقديم كل ما يقدر عليه للضيف). أما طعامهم فأهم الأطباق هي المصنوعة من البرغل واللبن والكشك، وبالنسبة للباس فالنساء يلبسن ثوبا أسود، ويضعن نقابا علي رؤوسهن، ولكن قلما يسدلنه علي وجوههن ، أما إكرام الغريب فأحسن ما شاهدت في منطقة حوران، ويمكن للمسافر أن يأوي لأي بيت يختاره من بيوت القرية حيث يقابل بالترحيب.

ويمر بيركهارت علي وصف زراعة حوران، حيث قمحها المشهور، والفئران التي هي أكبر عدو لمحاصيلهم، أما مشكلتهم الأساسية فهي في ظلم الحكام الأتراك، والضرائب الباهظة التي تثقل كواهلهم، وكذلك عدوان البدو عليهم وفرضهم الخاوة، ولهذا غالبا ما يلجأ الأهالي إلي المغاور والكهوف هربا من الفرسان وجامعي الضرائب (... أما الضريبة الأشد قساوة ونكاية فهي نزول عسكر الباشا في القرية، فعلي سكان القرية إطعامهم وإيواؤهم وإطعام دوابهم، وهنا تحدث المأساة، فهؤلاء العسكر لا يأكلون مما يأكل الفلاحون، ولا دوابهم تأكل مما تأكل دواب الفلاحين، فلا يقبلون إلا ثلاث وجبات من الأرز واللحم، ولا ينامون إلا علي أحسن الفرش وبأحذيتهم وقذاراتهم،ويحطمون ما تقع عليه أيديهم من الأثاث).

في 19 حزيران (يونيو) 1812 م رغب بيركهارت في مغادرة دمشق متوجها إلي القاهرة، ولم يرغب في إتباع الطريق التقليدي عبر القدس وغزة إلي القاهرة بل فضل اكتشاف المنطقة الجبلية الواقعة شرقي نهر الأردن، وشرقي البحر الميت وصولا إلي البحر الأحمر كما يقول، وقد ذكر أنه في الطريق مر بمجموعة من القري السورية، والقنيطرة، وجسر بنات يعقوب، وصولا إلي صفد، وطبريا، والناصرة حيث غادرها برفقة تاجرين من السلط إلي نابلس، ثم انحدر معهما إلي غور أبي عبيدة، وزار مقامه (وقد مررنا بمضارب بعض قبائل الغور التي لا تبارحه، وهم يفلحون أراضي شاسعة من الغور بالقمح والشعير والذرة، وهم علي سلام تام مع أهالي السلط).

وقد تابعت القافلة الصغيرة سيرها باتجاه السلط مرورا بميسرا وجبل أوشع، وسجل أنه شاهد وجود ستين خيمة لقبائل العباد حول قبر أوشع في حالة يرثي لها بعد تعرضهم لهجوم من قبيلة بدوية مجاورة.




مدينة السلط حرة لا تخضع لأحد

وقد لاحظ بيركهارت الذي نزل ضيفا عند مرافقيه أن الجيران يتعاركون فيما بينهم لاستضافته وإكرامه، أما السلط فيقول عنها (هي المدينة الوحيدة المأهولة بالسكان في منطقة البلقاء، وتكاد تكون مستقلة عن أية حكومة، ولا تتبع أية ولاية، وقد حاصرها باشوات دمشق وآخرهم عبد الله باشا الذي حاصرها ثلاثة أشهر دون طائل، وبقيت السلط حرة لا تخضع لأحد..).

وقد قدر بيركهارت أن المدينة تتكون من 400 عائلة مسلمة، وثمانين عائلة من النصاري يعيشون في وئام تام، وأن هناك كاهنَيِنِ يقودان الصلاة في كنيسة صغيرة باسم العذراء (ويتقاضي الكاهنان مبلغ أربع جنيهات سنويا يجمعهما أهالي السلط، والعجيب أن المسلمين يدفعون جنيهين من الأربعة المذكورة،ونصاري السلط غير متمسكين بدينهم، فهم قليلوا الصلاة والصيام، فقد شاهدتهم يأكلون المنسف، المكون من اللحم والسمن أثناء الصيام الكبير لامبالين، وأكثرهم يحلف بالقرآن ويصلي علي النبي).

ويروي بيركهارت بدقة أن أهالي السلط غالبيتهم من المزارعين والتجار، وأن العنب هو الفاكهة الأبرز، حيث يجري تجفيفه، ويبيعون الزبيب إلي تجار القدس، كما أنهم يجمعون السماق من الجبال ويجففونه ويصدرون منه حمولة 500 جمل سنويا إلي أسواق القدس أيضا، وبالنسبة إلي الفحيص فقد بدت لبيركهارت حينئذ مخيما لأهالي السلط لجمع محصول العنب في الصيف، ورأي أنها عبارة عن مكان أثري، وبها نبع ماء غزير، وبناء مسقوف بأقواس يصلي فيه النصاري أحيانا، وكان حظه جيدا إذ وجد من أهالي الفحيص من يرافقه إلي عمان، بعد أن بدا له الأمر مهلكا ولم يقبل أحد من السلطيين مرافقته إليها لخطورتها، وفي السابع من تموز (يوليو) 1812 وصل عمان عن طريق الحمر، ورأي آثار خلدا، وظهرت له عمان واديا يعبره نهر (والنهر مليء بالأسماك، وعلي الضفة الجنوبية منه يقوم مسرح كبير، وهو أكبر مسرح رأيته في سورية)، ووصف بدقة الآثار التي هناك، وصعد إلي جبل القلعة ووصف ما عليه أيضا وخلص إلي القول (أنا أعرف تماما أني لم أوف عمان حقها من الوصف، ولن يوفيها حقها أي رحالة إذا لم يكن يشعر بالأمان خلال بحثه ووصفه، وأنصح أي رحالة يريد أن يطلع اطلاعا كافيا، ويصف ما يراه وصفا تاما أن يصطحب معه ثلة من الحرس المسلحين بالبنادق تواكبه أينما ذهب، وتقف عند رأسه إذا جلس ليكتب أو ليرسم). ويبدو أن بعض القبائل البدوية كانت تسيطر علي خربة عمان كما وصفها، وأن القدوم إليها محفوف بالمخاطر، وهذا يفسر سر عدم قدوم السلطيين إليها، كما أن مرافقه الفحيصي والفارس الذي معهما قد ولا مدبرين وتركا بيركهارت (يقوم بكتابة ما علي الأحجار،والتجول بين الخرب كالمجانين)، عندما أحسا بقدوم بعض البدو، وسرعان ما عادا إليها وغادرا معا نحو صافوط مرورا بخربة الجبيهة، وآثار سهل البقعة الرومانية كما يروي أنه توجد مدينة أثرية تدعي ياجوش إلي الشمال الشرقي من صافوط وبها بعض الأبنية الحجرية الكبيرة، ثم عاد إلي السلط لبضعة أيام أخري قبل أن يجد دليلا يقوده إلي الكرك.

الكركيون علي المذهب الوهابي

في منتصف تموز (يوليو) من عام 1812 وصل بيركهارت إلي الكرك بعد وصفه للطريق إليها من مادبا مرورا بالموجب ومضارب عرب بني حميدة، والربة والياروت، وكان يصف المسافات بالساعات، ما أن دخلت باب المدينة الشمالي حتي تجمهر علي حشد كبير من أهل البلد المضياف، وكل واحد يستبق الآخر إلي الإمساك بعنان جوادي، والكل يريدني ضيفا، وبالطبع لم أستطع تمييز المسلم من النصراني..

وتبدو مسألة الدين عنده مهمة حتي لا يتعرض لأي أذي أو سوء فهم نتيجة خبرته السابقة في بلاد الشام، ولكن وجوده في حوران من قبل والسلط، وأخيرا الكرك جعلته يدرك روح التسامح المتوثقة بين أبناء الديانتين في هذه البلاد، وقد بقي في المدينة ضيفا عشرين يوما، ووصف قلعتها وينابيعها، أما سكانها فيقول عنهم تعيش في الكرك 400 عائلة مسلمة، و150 عائلة مسيحية، ومسلمو الكرك خليط من أرجاء سورية الجنوبية، ولكن أغلبهم من الخليل ونابلس، أما النصاري فهم من نسل لاجئين من القدس وبيت لحم وبيت جالا وبالطبع تحتاج معلومات بيركهارت هنا إلي تمحيص المؤرخين، والباحثين الأردنيين، فربما استقي معلوماته كرحالة غربي من بعض القرويين شفويا دون توثيق، و يلجأ أيضا إلي الحديث عن قبيلة بني عمرو البدوية التي كانت تحكم الكرك ثم هزمت علي يد تجمع للعشائر الكركية والحويطات قبل ثلاثين سنة من وصول بيركهارت،كما يصف أيضا شجاعة نصاري الكرك في مقاومة عرب الرولة في إحدي الغزوات، ومن طريف ما يرويه أيضا أن الكرك كانت تعتنق المذهب الوهابي لأربع سنوات بضغط من ابن سعود وجماعته وقد منح ابن سعود شيخ الكرك يوسف المجالي لقب أمير علي جميع بدو المناطق الواقعة بين دمشق والبحر الأحمر،كما فوضه بمحاربة الأتراك (الكفرة) كما هم في عرف الوهابيين.. على حسب روايته.

ويبدو أن ابن سعود قد أرسل في ذلك الوقت بعض مبعوثيه إلي الكرك وأثناء وجودهما في الكرك التزم المسلمون الكركيون بتعاليم المذهب الوهابي فقد منع التدخين كليا، وأصبحوا يذهبون خمس مرات للصلاة في المسجد مع أنهم عادة لا يصلون أبدا باستثناء الشيخ.. ويبدو الدين في تلك الفترة المبكرة لم يأخذ حيزا حقيقيا لا عند المسلمين أو المسيحيين سواء علي مستوي الطقوس أو التفكير والنصاري هنا لا يؤمون الكنيسة، ولا حتي في أيام الآحاد، ولا يصومون أبدا، ومعهم حق في ذلك، فالكاهن يتلو القداس باللغة اليوناينة وهم لا يفقهون حرفا مما يقول... .




وينتبه بيركهارت إلي بيوت الكركيين وتجارتهم،ومحاصيلهم، ويبدو أن استعمال النقود كان نادرا فالبيع كان يتم بالمقايضة، ويروي أن جميع تجار الكرك هم من أهل الخليل، كما كان الكركيون يشترون الرقيق (الزنوج وغيرهم) من الحجاج القادمين من الحجاز، وقد وصل بيركهارت إلي غور الصافي والمناطق التي تجاوره، ووصف أحوال الغوارنة البائسة بسبب الفقر والحرارة والأمراض، ويصف أيضا اشجار المنطقة ومعادنها، وخصوصا القار الذي يخرجه البدو من البحر الميت، ويبيعونه، وهو أمر يدل علي تواصل حقيقي مع ما كان الأنباط يفعلونه من قبل.

في 4 آب (اغسطس) 1812 غادر بيركهارت برفقة الشيخ يوسف المجالي وأربعين فارسا إلي خارج الكرك باتجاه الطفيلة،وقد مر علي كثربا والعراق وخنزيرة الطيبة حاليا وقد استفاد من هذه الرفقة بخبرات عن البدو وحياتهم وأفضل وسيلة للتعامل معهم، وقد وصل الطفيلة يوم الثامن من آب (اغسطس)، ويروي أن بها 600 بيت، و99 نبعا، وبساتين فاكهة وأشجار زيتون كثيرة، وكان الأهالي يجففون محصول التين في قوالب ضخمة ويصدرونها إلي غزة، أما حيوانات الطفيلة وطيورها التي انتبه لها بيركهارت هي نسور الرخمة، والغربان والخنازير البرية، والماعز البري أو البدن وكذلك طيور القطا، وبالطبع يشير الرجل إلي كرم أهل الطفيلة الذي لا ينسي، وقد غادرها باتجاه بصيرة، ووصفها مع ضانا وصلفحة، وسلمه الشيخ المجالي إلي أحد مضارب الحويطات، وأوصي به خيرا،وقد قاده أحد الأدلاء بعدها إلي الغوير وأخيرا الشوبك وقلعتها الشهيرة التي كانت مأهولة من مائة عائلة من الملاحيم ، وثمة مخيم لبدو الهباهبة إلي الشرق من القلعة كما يذكر، أما عرب الحويطات فقد كانوا قد تخلوا عن المذهب الوهابي الذي اعتنقوه لسنة واحدة، وأصبحوا من أنصار محمد علي باشا، كان هدف بيركهارت أن يصل وادي موسي ليشاهد الآثار التي كان قد سمع عنها من الناس الذين قابلهم في ترحاله، ومن هناك ينطلق مباشرة إلي القاهرة، وكان قد أمضي ليلة في مضرب خيام الرفايعة المتخصصين بزراعة العنب وتصدير الزبيب لغزة، إضافة إلي شجاعتهم المعروفة كفرسان.

البتراء أعجوبة من صنع الجن

وفي 22 آب (اغسطس) وصل الرحالة السويسري إلي وادي موسي التي يسكنها عرب اللياثنة، وقد أشار عليه دليله أن يقدم ذبيحة نذرا لهارون فوق كومة من الحجارة مثل عادة الأهالي والزوار، ولكن بيركهارت أصر علي ذبحه بجوار الضريح تماما (كنت وحيدا بلا حماية في مكان لم يدخله أجنبي أو سائح من قبل،وإذا قمت بفحص هذه الآثار أو رسمها أو كتابة شيء عنها أمام هؤلاء الأعراب الذين يحفون بي فإن فهمهم الوحيد لتصرفي هو أني ساحر أقرأ الطلاسم وأدمدم لأخرج الكنوز الدفينة في هذا المكان، وفي هذا الحال سيقومون بضربي وتعذيبي لأقاسمهم الكنوز أو أدلهم علي أمكنتها وإذا أبيت أو أنكرت معرفتي بذلك أو حاولت شرح مهمتي لهؤلاء السذج فإنهم سيسلبوني متاعي ويمزقوا أوراقي التي هي أهم ما أحرص عليه في حياتي). ويبدو أن هذا الشاب ذي الثمانية والعشرين خريفا القادم من صقيع أوروبا قد بالغ في الأمر، أو أن السيناريو الذي ذكره كان في خياله أكثر مما كان في الواقع، وفي يوم 23 آب (اغسطس) دخل إلي البتراء مرورا بالسيق، وقد بدأ وصفه له ولحجارته، ولقنوات الماء علي جانبيه، ويروي ساخرا أن دليله أخبره أن كل ما يراه هو من صنع الجن، وقد هاله رؤية بناء الخزنة المنحوت بالصخر بعد أن مل من جدران السيق، فمنظرها (يخلب اللب لجمال نحته، وحسنه الذي لا مثيل له في جميع الآثار التي شاهدتها في سورية، ولم تؤثر عليه حوادث الأيام فكأن النحاتين قد تركوها لتوهم لتناول الغداء، وأستطيع أن أؤكد أن أي فنان مهما عظمت مكانته في العصر الحديث أو القديم لا يستطيع أن يدعي أن بإمكانه الزيادة أو التعديل على هذا الأثر الجميل شيئا لأنه كامل، وأثر بالغ العظمة).

انطلق بيركهارت بعدها في التجول في المدينة وزيارة أضرحتها، وكان يسجل ملاحظاته، والقياسات والأعداد التقريبية بالنظر، فقد كان يخشي أن ينظر له كباحث عن الكنوز أو أحد الكفرة الإفرنج ، ولما أن أقبل الليل قبل الوصول لضريح هارون اكتفي بيركهارت ودليله بذبح الشاة في السهل القريب منه وعادا دون رؤية الآثار القريبة من الضريح (وقد تعلمت أن علي الرحالة أن يري كل بعينيه أما أقوال البدو فلا يعتد بها، فهم يبالغون في وصف الأشياء التافهة ولا يأبهون بالأشياء الجديرة بالدراسة والاهتمام،.... وقد ذكر المؤرخ الروماني يوسيبوس أن قبر هارون يقع قرب مدينة البتراء العربية وهذا ما اقتنعت به تماما، ويعطي البرهان علي أن وادي موسي هو مدينة البتراء وأنه لا توجد آثار بين البحر الميت والبحر الأحمر سوي هذه الآثار، ومعنى هذا أنني أول مكتشف أوروبي يري البتراء).

غادر بعدها إلي الجي التي يسكنها عرب اللياثنة ووصف أنهم بارعون في حياكة الملابس، ولا يخلو بيت من نول، وهم يبيعون سلعهم إلي قافلة الحج الشامي في معان، وقافلة الحج المصري في العقبة، أما معان التي زارها بيركهارت بعد ذلك فيروي أن أهلها يعيشون علي التجارة في موسم الحج (وبما أن تلك الفترة قد شهدت منع الحجاج من الذهاب إلي مكة للسنة الرابعة على التوالي فقد تحول سكان المدينة إلي باعة متجولين للبدو وأكثرهم هاجر إلي الطفيلة والكرك، وكادت المجاعة أن تقضي عليهم)، ويضيف بيركهارت (وبما أن أهالي معان يعتبرون مدينتهم الواجهة للأماكن المقدسة في الحجاز، فإنهم عكفوا على حفظ القرآن والأحاديث النبوية حيث يعمل معظمهم كأئمة مع البدو، يعلمون أولادهم ويؤمونهم في الصلاة) أما (المشمش والدراق والرمان الذي تنتجه حدائق معان فهو يعتبر من أفخر الأصناف). وفي 26 آب (اغسطس) وصل بيركهارت إلي مضارب الحويطات ليسافر مع قافلة لهم إلي القاهرة وهي بغيته الرئيسية، وهكذا انتهت رحلته القيمة في بلادنا الحبيبة وبالطبع يحفل الجزء الأول من الكتاب والجزء الثاني بوصف بقية رحلته في بلاد النوبة وسيناء والحجاز، وهي رحلة تحتاج إلي الكثير من التأمل والدراسة والتعليق.
و يمكن لعشاق المسلسلات البدوية المطالبة من المخرجين و المنتجين إنتاج مساسل تاريخي
حول سيرة الرحالة....

المهندس محمود الدبعي - ستوكهولم - السويد
(301)    هل أعجبتك المقالة (263)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي