أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

احتفاليـّة دمشق الثقافيـّة وأمانة غزّة؛ (التعاطف) موصولا ً, إلا ... مع الثقافة!


تصرّ الدكتورة حنان قصاب حسن الأمين العام السابق لعاصمة الثقافة العربية في لقاءاتها الإعلامية كلها (آخرها مع التلفزيون السوري منذ يومين) على أنها قامت بالواجب, وأزيد.
ويبدو من قبيل العبث محاولة إقناع السيدة الفاضلة أن الأمر خلاف ذلك, وإن كان في المثال التالي بينة واضحة على هذا الزعم.
إذ لم يبد أن قرار الأمانة العامة لعاصمة الثقافة العربيّة في دمشق إلغاء احتفالها بمناسبة اختتام نشاطاتها مع نهاية العام المنصرم قد أثار أيّ انتباه أو لغط من قريب أو من بعيد.
بل لعل الخطوة (المتعاطفة) التي ارتأت الإدارة الراحلة أن تطوي بها صفحتها الأخيرة مع انتهاء ولايتها الثقافيـّة؛ وجدت عذرها في فداحة الخطب الذي تلطـّت وراءه.
العذر الذي لم يكن -في الظاهر أقـّله- سوى تلك الأوضاع التراجيديـّة, والمتدهورة لا تزال, في الأرض الفلسطينيـّة, جرّاء التشرذم السياسيّ الداخليّ, وعسف الاحتلال الاسرائيليّ, بهمجيـّـته المتورّمة.
على أنّ النقاش هنا لا يدور حول فيما إذا كان يحقّ للأمانة إبداء (تعاطفها) ذاك من عدمه, بقدر ما هو مساءلة للإخراج (الثقافيّ) الذي استسهلت تلك الأمانة تبنيه لإظهار ما أرادت إظهاره.
وفيما إذا كان التعاطف (السلبي) ممثلا بتعطيل العمل, والحجر على المبادرات, هو الرسالة المناسبة التي يمكن أن توفرها هيئة رسميـّة لها ما لها من صلاحيـّات وميزانيـّات استثنائيـّة, وعليها ما عليها من التزامات ومسؤوليـّات -استثنائيـّة كذلك- بحجم عاصمة ثقافة.
أليس من الغريب حقا ألا يتفتـّق ذهن أمانة الاحتفاليّة إذ تبحث عن أداء (فاعل) في وجه (المحرقة)؛ سوى عن فكرة مراكمة مزيد من (اللافاعليـّة) في مجرى الحراك الثقافي المحلي ... (المقاوم)؟
متساويـّة في مستوى الرد ذاك [1] مع ما كانت سبقتها إليه اجتهادات متفرّقة لإدارات مضافات الأعراس, ومرابع السهر العامـّة, والمرابع الليليـّة في طول البلد وعرضها.
إنّ فيما يؤخذ على الأداء الرسمي لأمانة دمشق عاصمة للثقافة العربيّة؛ هو المصيبة الكافكاويـّة التي تعاني منها الأمانة في قاموس لغتها العربيـّة بالذات.
وهي التي لا تعرف فيما يبدو تأويلا لـ(حفل ختام) سوى ما يتعلق بمرادفات الـ(زيطة) والـ(زمبليطة) العبثيـّـتين, والـ(تهييص) المنفلت, والـ(طقش) والـ(فقش) غير الملتزمين, وما إلى ذلك من المجون الكرنفالي الذي لا يوائم دستور نكد (المرحلة), وعدميـّـتها الجادّة.
مع التنبيه إلى أنّ أحدا لم يسمع مسبقا عن أي تحضيرات أو خطط جليلة لحفل الختام المزعوم إيـّاه, والذي -البرنامج الموعود- كان سيضفي على قرار (التضحيـّة) به اعتبارا ومغزى ما؛ لتبقى في النهاية الفكرة ذاتها المتمثلة باعتزال المبادرة, واجتناب العمل الحقيقيّ جديرة حقا بالرثاء.
لنسأل أنفسنا ماذا لو قررت المشافي السوريـّة أن تمشي على خطى الاحتفاليـّة, و(تتعاطف) مع مأساة مشفى الشفاء في غزة مثلا؟ [2]
هل سيترتب على جرّاحي تلك المستشفيات إذ ذاك رمي مباضعهم في سلال المهملات, والامتناع عن أخذ مواقعهم وراء طاولة العمليـّات, تاركين مرضاهم لغيبوبة الانتظار والمورفين, ومن ثمّ, الموت المحقق ربما؟
هل كان على شرطة النجدة في مدينة دمشق أن تتوقف عن ملاحقة المجرمين, وحفظ الأمن, تأثرا بمشاعرها تجاه الجثث الممثل بها لشهداء قوى الداخليـّة الفلسطينيـّة في القطاع المنكوب؟
هل تحبس مؤسسة مياه الشفة معينها عن الصنابير, وتتوقف عن إرواء الناس, وتستنكف مؤسسة الكهرباء عن أداء واجبها في إيصال التيار الكهربائيّ إلى المنازل والمصانع, وتقعد مؤسسة الاتصالات عن القيام بخدماتها الأساسيـّة, وتشل مؤسسة -مكرر- النقل البلاد؛ (تضامنا) مع البنيـّة التحتحيـّة الغزيـّة الممزقة شر ممزق بالفعل الإجرامي للعدو؟
هل توجب علينا في حينه أن نحرّض مكتب مكافحة البطالة مثلا على إغلاق ممثليـّاته في المحافظات السوريـّة عدة أسابيع أمام طوابير الباحثين عن وظيفة ؟
من دون أن نسأل المفتين في أمانة الاحتفالية عن الطريقة (الشرعيـّة), والتي يمكن للواقفين في هاتيك الطوابير أن (يشنـّوا) عبرها -لئلا يتـّهموا في وطنيتهم- إضرابهم الخاص بدورهم, وهم العاطلون عن العمل أصلا ؟!
لقد أثبتت أمانة دمشق الثقافيـّة أنها لا تنظر إلى موضوع (شغلها) الأساس على أنـّه على هذا الجانب من الخطورة, أو في مثل تلك (الحيويـّة) التي هي لمقومات الحياة البداهيـّة الأخرى.
وإلا لما تجرّأت على معاملة هذا الواجب بهكذا استخفاف, ولأولته ما هو حقيق به من (العمل), والمزيد من (العمل), ولا شيء سوى (العمل).
ليس على حين (غزة), المحاصرة والمصلوبة, وإنـّما منذ الجولان (الاغتصاب, والمقاومة, والأسرلة, والتفاوض), الغائب الأكبر عن استراتيجيـّات الأمانة أبدا. ما لم تكن مفردة (استراتيجيّّة) فضفاضة أصلا, على الاحتفاليـّة ككل.
إذ لا يستشف المراقب من أداء الأمانة في هذا السياق بالذات؛ سوى تكريس اعتباطيّ آخر للتأويلات البائسة, والتي تسيدت لسنين علاقة السياسيّ بالثقافيّ في هذا البلد.
كانت لتكون أنباء سارّة حقا, وخارج المألوف الرسميّ الثقافيّ -سوريـّا على الأقل- فيما لو أنّ إدراة دمشق للثقافة العربيـّة انبرت لدعوة مثقفيها -محليين وعربا- للقيام بجردة حساب مبدئيـّة حول ذاك الذي طرحته علينا عاصمة الثقافة خلال نهارات العام الماضي ولياليه المنصرمة.
وبما يعيننا على اجتراح مقاربة أنضج لفهم -ولا أقول تجاوز- محنتنا الثقافيـّة الراهنة التي نتخبط في زيتها الثقيل والكاوي.
أو بالأحرى لمناقشة ذلك الذي عجزت الاحتفاليـّات الآفلة على الجملة -وهذه الاحتفاليّة بالذات- عن تقديمه لمواطنيها حتى استقرّوا جميعهم في الدرك الذي هم فيه, باعتراف موثـّق على لسان أرفع مسؤوليهم المطوّبين.
وربما طرح إسعافات أوليـّة يمكن لها أن تقيل عاصمة الثقافة التاليـّة, القدس, من عثراتها المتواليـّة, والمتمثلة بتوالي الاستقالات الإداريـّة -هم يعترفون بوجود استقالات على الأقل!- وتعدد اللجان المنظـّمة, وضيق الموارد, وتأزّم اللوجيستي.
وهنا لا يسع المرء إلا تكرير النظر أسفا في تصريحات الدكتورة حنان قصاب حسن في بعض جلساتها الإعلاميـّة على ندرتها, والتي كانت فيها باتـّة, قاطعة, وجذلة بامتياز, لجهة نجاح مساعيها في أداء (وظيفتها), هي وأمانتها على رأس الثقافة العربيّة, في الوقت الذي كان يجدر بها -كجزء من خطتها للتضامن- أن تبدي فيه قدرا أكبر من التواضع والإحساس اللاخطابي بفداحة المسؤوليـّة تجاه نكبات هذه الثقافة, والتي أراق على عتباتها بارود المس الاجراميّ (الصهيوني) مؤخرا جدا آلاف الغالونات من الدم الفلسطينيّ الحار.
أقلـّه لئلا يكون (انتصارنا) موقوفا اليوم أيضا للتلفزيونيّ, والمرحليّ الممنتج. على اعتبار أن مدافع العدوان لا تزال تحرث جغرافيا أخرى على بعد مئات الكيلومترات, وليس دمشق (العاصمة) ذاتها.
يرفل عدد لابأس به من مسؤولينا الثقافيين في عافيـّة (ضميريـّة) لا يحسدون عليها, ولا يشعر كثير منهم بعد بحاجة غير عاديـّة إلى النفخ في أي نفير, أو قرع أي ناقوس لاستنهاض جهد إضافي يعرفون يقينا أنه موجود بين ظهرانيهم, بل وفيهم, من دون أن يكون بالضرورة ملحقا بسكرتارياتهم السموكينغ, ومكاتب اتصالهم مشغولة الخطوط.
وهنا بالذات, وعلى الضد من (غيرهم), يراهم المرء -مسؤولوا الثقافة المحليين- متخلـّفين, وشاذين (طوارئيـّا), في بلد ما انفك في حالة طوارئ مزمنة, توشك أن تتم بسلاسة ودون جلبة هذه الأيام نصف قرن .
وإن كان لمناسبة عاصمة الثقافة من ميزة على الإطلاق, فهي في أن جعلت عبر بعض ملتقياتها خمول هذا القطاع الحياتي والحيوي يبدو فاقعا أكثر مما تعودناه. فإذ بها وهي التي تزعم طلاقه تعود إليه وفيه, قبل ساعات فقط من ختامها.
قطاع أتى عليه حين من الدهر عانى فيه شبه إضراب, طوعا وقسرا, ولأسباب لا علاقة لها دائما بالتواشج الوجداني مع مأساة أحد آخر, وإنما لاعتبارات تخصّ في كثير من تفاصيلها تراجيديـّاتنا الممعنة في المحليـّة. وبما يتجاوز على أيـّة حال (العاصمة) إلى مدن ِ, وضيعِ, وحارات ِ, ومنازل ِ, وأقبية ِ, وغرف ِ, وحمـّامات الثقافة السورية, على مدى عقود.
ليصبح مرور حوداث كهذه أمام نواظرنا بسلام, واستساغة أغلبنا لمثل هذه الارتجالات, انعكاسا أوليـّا -مذموما ولاشك- لتراكم هذه الارتجالات من حولنا بمناسبة (فاجعة) أو بدونها. أو ربّما مخافة أن يكون (الفعل) -نقيض اللافعل- دون المبتغى والمطلوب. هذا إذا تجاوزنا عن ان كثيرين لا يكادون يلقون بالا أصلا للرسميّ الثقافي في البلد, و لايعوّلون عليه من الأساس.
لدرجة أن بعضهم أثنى على التوجه إيـّاه للاحتفاليـّة, من باب أن إلغاء مراسم الختام سيوفر على المنظمين حرجا ثقافيـّا من العيار الثقيل, متمثلا في اختيار مستلم (شعلة) الثقافة العاصمة, بين لجنة (حماس), ولجنة (السلطة)!
ناهيك عن أنـّه -الإلغاء- ربما أنقذ لحين بضع ملايين من الليرات من أموال دافعي الضرائب, كانت ستصرف لعلها على مفرقعات النهايـّة, كما صرفت على مفرقعات الافتتاح الذي وصم وقتها بالشعبيّ (تمييزا له عن الافتتاحين الآخرين -غير الشعبيين- في دار الأوبرا, واسبانيا).
لا يملك المرء إلا أن يأمل مخلصا بألا تكون الأمانة المنحلـّة, والفخورة بمنصبها الاستشاري في اسطنبول الثقافية العام القادم, قدوة تؤتسى في التعبير (الثقافيّ) عن التضامن والأثرة بالنسبة لشقيقتها القدس.
والتي يـُخشى إن هي -القدس- أسلمت نفسها للبدعة السوريـّة, وأعلنت (الإضراب) كلـّما عنّ على البال الاسرائيليّ استعراض (فنون) بربريّــه -وهي المدينة المحتلـّة بالمناسبة-؛ ألا يتبقـّى لها ولنا إلا أيـّام (ثقافيـّة) معدودة, في روزنامة فعل الصمود المنتظر للعام 2009 !
فالمسؤولية كانت ولاتزال أكبر من أن تترك لارتجالات المعتشاين على المناسباتيـّات كلّ 29 عاما تزيد أو تنقص, كما حال الأمانة في مثال ما جرى, (أمانة) أثبتت أنها (أمينة) لتراثها الرسميّ المحليّ, رغم نقدها الروتينيّ له, وغلواء زعمها الخروج عليه؛ عندما أبت لدى امتحانها الحقيقي إلا أن تقنع من الغنيمة بالايابْ, ومن العزم والعزيمة ... بالإضرابْ.




هوامش:
[1] حفلة المغنيّة الفلسطينيّة ريم البنـّا كان من المفترض أن تكون أول عام 2008, وقبل تفاقم أحداث غزّة. كما سبق لمارسيل خليفة أن أحيا حفلاته الخاصّة في أكثر من محافظة سوريـّة. وما كان مطلوبا هو جهد نوعيٌّ -غير إعجازي- ومن نمط آخر, يضاف إلى الموسيقيّ الذي ليس من صعوبة حقيقيـّة في برمجته -تاريخيـّا- في مثل هذه المناسبات.
[2] تعاملت وزارة الصحّة السوريـّة مع الوضع الفلسطيني المأساوي بشكل (صحيّ) أكثر من وزارة الثقافة وأمانة الاحتفاليـّة كلتيهما, وذلك عبر إرسالها -بدل الاعتصام في المستوصفات- طواقم طبيـّة ميدانيـّة إلى غزّة, أسهمت إلى حد ما في (تضميد) الجرح النازف هناك... وهنا.

(كلنا شركاء)

خالد الاختيار
(129)    هل أعجبتك المقالة (125)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي