أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

من المستفيد من ضبابية الصورة الثورية؟*

من مظاهرات إدلب - جيتي

لا شك أن الربيع العربي ومنذ انطلاقته في أواخر العام 2010 في تونس حمل الكثير من الأحلام للشعوب العربية التي عانت عقودا من الاضطهاد والإقصاء على أيدي أنظمة ادّعت أنها وطنية، ولكن أحلام الشعوب تلك تحولت إلى أوهام، بل إلى كوابيس في بعض الدول شهدت انتفاضات شعبية كمثال ليبيا وسوريا، حيث ساد الاقتتال بين الإخوة، ودخل الإرهاب من أوسع أبوابه ليعلن تخريب الحلم بالحرية والعدالة والمساواة محاولا فرض فهمه للدولة والدين في آن معا عبر القهر والإرغام وسلوكيات لا تقل بشاعة عن سياسات الأنظمة التي تمردت عليها الشعوب العربية.

ودخلت سوريا في أتون حرب لا يبدو أن لها نهاية قريبة وتعقد المشهد السوري حتى بات من المستحيل فك رموزه وتسارعت الأحداث بشكل هيستيري مرعب تسببت في هجرة نصف السكان إلى الدول المجاورة مثل تركيا والأردن ولبنان ومصر ناهيك عن مليوني لاجئ سوري اختاروا اللجوء إلى الدول الأوربية ترافق ذلك مع اشتداد آلة القمع والذل على من تبقى من السوريين في الداخل عدا عن الانهيار الاقتصادي وتراجع قيمة العملة وارتفاع الأسعار مع تخلف الأجور والرواتب. فإذا ما أضفنا إلى تلك الصورة الانهيار الأخلاقي والقيمي الذي أصاب الأطراف المتصارعة كافة تكشفت لنا تعقيدات الوضع الذي تشهده البلاد طولا وعرضا.

إزاء هذا المشهد المتشابك حد الغموض لم يعد أمام السوري، داخلا وخارجا، إلا تحميل البحث عن طرف ما يحمله مسؤولية ما حدث فالمؤيدون يلقون بالتهمة على عاتق الثورة وجمهورها فلولا (تآمرهم) على البلاد لما حدث كل ذلك فيما يرد جمهور الثورة واضعا كل المسؤولية على النظام ومؤيديه، فالنظام عبر جيشه وميليشيات القمع التي ساندته في مسار الحل العسكري الذي اختاره هو الذي أحرق البلاد وقتل العباد ولكل طرف حجته التي يدفع بها في وجه الطرف الآخر حتى صار المجتمع السوري كما يقول سيغموند فرويد (مجتمع شياطين) فكل فريق لا يسعى فقط لشيطنة الآخر، وإنما لا يراه إلا شيطانا ولا ينظر إلى كل ما يصدر عنه إلا كوسوسة شيطانية ولكل وسائل إعلامه المؤيدة ومثقفيه وجمهوره من مختلف الشرائح.

ولعل من غرائب الأمور في سوريا أن كلا من المعارضين والمؤيدين ينتمون إلى ذات الشرائح الطبقية والاجتماعية والفكرية، فالثورة تضم في جمهورها فقراء المدن والفلاحين البسطاء والعاطلين عن العمل والمثقفين والفنانين والسياسيين السابقين والمنشقين ورجال اعمال كبارا ومستثمرين.

وهذا الحال ينطبق على جمهور المؤيدين أيضا فهم أبناء شرائح وطبقات اجتماعية متنوعة عموديا وأفقيا.

إن التشابه بين جمهور الفريقين يضع أكثر من علامة استفهام، ولكنه في الوقت ذاته يقدم إجابات مهمة عن أسباب تحول الحلم العربي في التحرر والعدالة إلى مجرد وهم أو كابوس، فهذا التشابه على سبيل المثال يسقط عن الثورة صفة مهمة للغاية، وهي أنها ثورة فقراء ومعدمين، ففي الجانب الآخر أيضا هناك فقراء ومعدمون وهي ليست ثورة فلاحين فلدى مؤيدي النظام جمهور واسع من الفلاحين، كما أننا لا يمكن أن نسميها ثورة الطبقات المسحوقة، فبين مؤيدي النظام الكثير من المسحوقين والمعدمين والعاطلين عن العمل وجمهور واسع من الفئات التي تكابد الأمرّين لتأمين قوت يومها.

هنا يجد جمهور الثورة مخرجا من هذا التشابه الذي يعدّ مأزقا حقيقيا فيقول إن جمهور النظام مجموعة من العبيد الذين استعذبوا العبودية وأنهم (أي جمهور الثورة) وحدهم عشاق الحرية ووحدهم من يرفع شعارات الديمقراطية وبناء دولة القانون لا دولة المحسوبيات والطائفية.

ولكن الديمقراطية (على الرغم من أهميتها القصوى) لن تحل مشاكل البلاد، فهي لن تجلب معها حلا للتمايز الطبقي المستشري وسينتشر أكثر في الغالب مستقبلا، كما أن الديمقراطية لن تحل مشكلة البطالة ولربما أن هذه الديمقراطية ذاتها جلبت صعوبات في التأمين الصحي والتعليم المجاني، كما هي الحال في كثير من الدول الديمقراطية في أوروبا وحتى في الولايات المتحدة، كما أن هناك الكثير من الأنظمة الديمقراطية في العالم، ولكنها في الحقيقة دول فاشلة كمثال أفغانستان، إذ يمكن وصف نظام الحكم هناك على أنه ديمقراطي وتشهد البلاد انتخابات برلمانية ورئاسية دورية كما تشهد إيران انتخابات مماثلة، إضافة إلى روسيا ولكن هل يمكن وصف هذه الدول بأنها تعيش حالة ديمقراطية؟

تكمن المشكلة ليست فقط في ضبابية الصورة العامة للمشهد السوري، وإنما أيضا في ضبابية المطالب الثورية وأهدافها وهذا ما تستغله بعض القوى المحسوبة على المعارضة لتمرير بعض من تخاذلها إزاء جمهور الثورة والتضحيات التي قدمها الشعب، هذه الضبابية هي النافذة التي تتسرب منها الخيانات والملاعبات على مصير الثورة.

الناس بشكل عام تجيد التعبير عن مصالحها، فهي تعمل بالفطرة وتثور بالفطرة وهنا تأتي مهمة السياسي أي أن السياسي هو من يصوغ مشاعر الناس ودوافعها الفطرية على شكل مطالب وأهداف، ولكن ذلك لم يحدث في ثورتنا، فعلى العكس من ذلك لهث السياسيون للحاق بالشارع في محاولات محمومة لإرضاء هذا الشارع وخطب ودّه، بدلا من تصويبه وإعادة تشكيل أصوات الشارع في قالب مطالب استراتيجية، ولربما نجد في توجه هيئة التفاوض إلى موسكو لبحث تشكيل لجنة الدستور السوري المزمع العمل عليه أكبر دليل على استغلال القوى السياسية الممثلة للثورة لضبابية المطالب ويفسر تقاعس السياسيين عن القيام بعملهم في تحويل الفعل العفوي الثوري إلى عمل ممنهج ومبرم ذي أهداف ومطالب محددة.

*فؤاد حميرة - من كتاب "زمان الوصل"
(178)    هل أعجبتك المقالة (180)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي