موسيقى التوحش.. عزف منفرد لحفلة التقطيع*

لا بأس من بعض الموسيقى، قليل من "نينوى" لو سمحت، ومقطوعة صغيرة من "بحيرة البجع"( ريثما أنتهي من تقطيع هذه الجثة القاسية لأن الرجل يبدو بصحة جيدة.
هذا ما يمكن تخيله من الرواية حول ما طلبه الطبيب الذي قام بتقطيع جثة الصحفي السعودي جمال خاشقجي، هكذا بكل أناقة القاتل وهدوئه، وبكل ما أوتي من روح متوحشة تجد اللذة في العبث المجنون بجسد إنسان فارق الحياة، وحيث لا حرمة لجلال الموت ورهبته.
بعيداً عن هذا الإغراق في سادية القاتل وتوحشه، وصورته التي ربما تفزعه لو أمعن النظر فيها...لا تبدو القصة بعيدة عن تاريخ الوحوش البشرية التي ابتلينا بها، ومناظر الاعتقال والتعذيب، والموت بالأنابيب المعدنية، وتاريخنا العربي المشين مع التذويب بالأسيد كله شاهد على ما صرنا عليه وما كنّاه.
الأدهى أن التسريبات المتتالية توضح المغزى من هذا القتل الوحشي، وما الأطراف التي كانت تؤلم القاتل وتستفزه لدرجة الجنون هذه، وأن قتل الرجل تم خلال سبع دقائق والبدء بتقطيع اصابعه اولاً ومن ثم تم قطع الرأس.
الأصابع التي كانت تكتب عن الظلم، وضرورة الإصلاح، والالتجاء إلى العقل والعدل، ومن ثم الرأس الذي يفكر ويأمر، الأصابع التي تنتقد والرأس الذي يملي عليها هما أولى بالقطع، ومن ثم غير مهم ما هو العضو التالي.
أسبوعان وأكثر مرا على وليمة الدم...والعالم الأرعن الخارج من زريبته يبحث في التفاصيل المؤلمة لشكل هذا الموت...قطعة قطعة يخرج الجسد المعذّب من قنصلية بلده، والعالم يستمتع بالتفاصيل الدقيقة، ويطالب بتجريم القاتل الذي أصدر أمر التلذذ بمصير مواطن أذنب لأنه خالف أولي الأمر.
العرب الرسميون كلهم صامتون، ومؤسسات ووزارات الثقافة تتناقل الخبر على أنه مجرد تفاصيل وتسريبات لم تتاكد بعد، وتتلمس مصالحها من مال الزكاة، وليس سوى مناشدات وأصوات فردية فزعة من نفس المصير.
العرب الرسميون يعتقدون انها مؤامرة جديدة على بلد عربي جديد، وهم في هذا يخشون أن تشيع فاحشة المحاسبة لأن في سجلاتهم الكثير من هذا الإرث الوحشي، وكل زنازينهم تشهد على صرخات من قضوا تحت التعذيب أو المرض أو الخوف.
سقطت أيضاً قيم الحضارة الأمريكية، وبعض الأصوات المنفردة لن تمنع ترامب من طلب فدية الصمت أو على أقل تقدير تزوير الحقيقة.
يصمت كثير منا عن الوحشية لأنه يخشى لقمة عيشه، وآخرون يرون أن المشهد عادي ومكرر، وقد اعتادت الديكتاتوريات العربية بأشكالها مشايخ وعسكرا على معاملة رعاياها بالحديد والنار، وأننا محكومون بالموت.
ريثما تثبت الحقيقة الواضحة، أو يؤتى بالقربان الذي يفتدي سيده ستتألم روح الضحية...وأرواح ضحايا التعذيب والإسكات في كل مكان..وتبقى موسيقى التوحش تُعزَف في حفلات التقطيع حتى ينتهي القاتل من ذبيحته.
*عبد الرزاق دياب - من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية