أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

خطورة الثقافة الـ"ترامبية".. فؤاد حميرة*

ترامب - جيتي

إن خطورة ما يقدمه الرئيس الأميركي دونالد ترامب في قضية اختفاء الصحفي السعودي جمال خاشقجي، لايكمن في محاولاته المستميتة في الدفاع القاتل ولا محاولاته تقديم سيناريوهات لتبرئة المجرمين (على الرغم من خطورة ذلك)، وإنما الخطورة تكمن في اعترافه الضمني بأنه لن يعاقب الجناة حتى ولو أشارت كل الدلائل إلى هذا المجرم، فترامب يقول أنه لن يلغي صفقات الأسلحة مع السعودية البالغة قيمتها 120 مليار دولار، حتى ولو ثبت تورط الملك سلمان أو ابنه محمد في عملية قتل خاشقجي في القنصلية السعودية في استانبول التركية.

وخطورة هذا الأمر تتأتى من جانبين أولهما أن ترامب يكشف للعالم الطريقة التي يعمل بها السياسيون، فلا قيم أخلاقية هنا ولا مبادئ ولا دفاع عن حريات، بل دولارات ومصالح وصفقات/ وكأنما المتابعون يدخلون في متاهة البحث عن المجرمين الحقيقيين بل والتشكيك أيضا في مصداقية السياسة حين يتعلق الأمر بالمقارنة بين الجريمة والمصلحة.

الشق الثاني أن ترامب بهذه الأفكار يفتح سنّة جديدة في التعاملات الدولية وربما الشخصية أيضا وكأنه يقول افعل ما تشاء شريطة أن تحقق لي مصلحتي، اقتل وانهب وافسد وتطاول على القانون الدولي، فكل ذلك لا يهم مقابل المصالح التي ستقدمها لي، وهذا مبدأ لا أخلاقي يسعى ترامب وجماعته إلى نشره ليكون أسلوبا جديدا في السياسة الدولية، ولكن الجديد هنا هو العمل علانية وعلى السطح وفق هذا المبدأ الرخيص.

الرئيس الأميركي يكشف لنا ويتكشف أمام العالم سياسة الولايات المتحدة ومبادئها القائمة على المصالح، فلا مبادئ هنا ولا أخلاق ولا صوت يعلو على صوت رنين الدولار .

كل جرائم النظام السوري مثبتة وموثقة بالصوت والصورة، ومع ذلك لا يمانع سيد البيت الأبيض في تعويم هذا النظام ومحاولة إعادة تدويره دون حساب أو حتى التلويح بعقوبات، فمصالح واشنطن أسمى وأرفع من أرواح مليون شهيد و12 مليون لاجئ، وهي عند العم سام أغلى من تدمير بلد بأمه وأبيه، هنا تتكشف الحقائق وندرك أن الديمقراطية الأميركية لا تعدو كونها ديمقراطية المال وأصحاب المال، وما تبقى عبارة عن ممثلين كومبارس وظيفتهم إكمال التمثيلية الديمقراطية، فأنت حر بقدر ما تحقق مصالح الدوائر المالية الكبرى، ولو على حساب المواطن الأميركي ذاته، ولنا في حرب فيتنام وحرب كولومبيا ونيكارغوا وبنما والحرب على العراق أمثلة قريبة وحية في الذاكرة، ودلائل على أن الحرية الأميركية هي حرية المال والمال فقط.

في عام 1953 جرى اجتماع للقوى الاستعمارية الكبرى في واشنطن ضم دولا أوروبية إضافة للولايات المتحدة، فيما بات يعرف لاحقا باسم اجتماع واشنطن، وصدر عن هذا الاجتماع قرار بدا للوهلة الأولى أنه المثال في التجارة الحرة وحرية انتقال البضائع عبر العالم، ولقد تم دفع مئات مليارات الدولارات لمثقفين ومفكرين ومؤسسات إعلامية للترويج لهذه المقولة التي باتت تعرف بعنوان العولمة، حتى باتت العولمة غير مطروحة للمناقشة أبدا، بل وحتى خارج نطاق النقد وفوق مستوى الشبهات.

ولو دققنا في هذه الحرية (حرية التجارة وانتقال السلع)، لانتبهنا إلى أن المقصود هو انتقال البضائع الأوروبية الأميركية عبر العالم بحرية، هذا ما تقصده حرية التجارة، خاصة إذا قرأنا البند الثاني الصادر عن اجتماع واشنطن، الذي يقضي بمنع قيام دول الأطراف بنهضة صناعية تهدد السلع الأميركية والأوروبية تحد من قدرتها على الانتشار والتفرد.

في بدايات القرن الثامن عشر شرعت بريطانيا العظمى في العمل على موضوع منع وتجريم تجارة الرقيق على اعتبار أنها عمل غير إنساني ويهين الكرامة البشرية، وأن الإنسان ليس سلعة قابلة للمساومة والبيع والشراء، ولكن الهدف البريطاني الحقيقي لم يكن الإنسانية ولم يكن هدفا أخلاقيا ساميا، وإنما جاءت هذه الخطوة نتيجة صراع مصالح استعمارية، وخاصة مع فرنسا التي كانت ناشطة في مجال تجارة العبيد ونقلهم إلى العالم الجديد آنذاك، ونقصد الولايات المتحدة، حتى كادت المستعمرات الإنكليزية في إفريقيا تفرغ من اليد العاملة، ما يعني تهديد الزراعة في تلك المستعمرات التي تقدم للصناعة الإنكليزية القطن والحرير والمطاط وغيرها من السلع الزراعية الضرورية للاقتصاد الإنكليزي.

هذا غيض من فيض استخدام الأخلاق والقيم السامية كغطاء للمصالح، ومن هنا تتأتى خطورة ما يقوم به "ترامب" اليوم فحتى هذا الغطاء الأخلاقي لم يعد له حاجة، وكل شيء سيكون على المكشوف وبكل وضوح وعلى المعترضين أن يضربوا رؤوسهم بكل جدران العالم.

*من كتاب "زمان الوصل"
(163)    هل أعجبتك المقالة (165)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي