محاولة لتفسير الغيبوبة ..!
(1)
لا أظن أن هناك جديد يقال عن إستبداد النظام فى مصر وفساده .
ملايين المصريين الفقراء يعيشون حياة غير آدمية وقد فقدوا كل أمل فى العدل والمستقبل .
عشرات الألوف من الأبرياء معتقلون دون محاكمة لسنوات طويلة .. الشهداء من ضحايا التعذيب فى أقسام الشرطة يتساقطون كل يوم . ومقابل ذلك تتراكم ثروات حكام مصر كل يوم بل كل دقيقة . هم وأولادهم وأفراد حاشيتهم . كل ذلك معروف للجميع .
لكن السؤال : لماذا لايثور المصريون ضد كل هذا الظلم والإستبداد ..؟
هناك إجابتان شائعتان عن هذا السؤال :.. البعض يرى أن القمع الوحشى الذى تمارسه السلطة ضد المعارضين يخيف الناس ويدفعهم للإذعان .. والحق أن كل الأنظمة المستبدة فى التاريخ مارست قمعا بشعا . لكن ذلك لم يمنع الناس من الثورة بل حفزهم عليها .
الإجابة الثانية يرددها للأسف بعض المثقفين .. يقولون أن الشعب المصرى بطبيعته أميل للخنوع والإستسلام أمام حكامه .
وهذه فكرة شاذة ومتعاليه ومهينة . لكنها أيضا غير صحيحة .. فكل من يقرأ تاريخ مصر يكتشف أن المصريين ليسوا أقل من الشعوب الأخرى فى الإستعداد للثورة من أجل إنتزاع حقوقهم .. فمنذ الحملة الفرنسية عام 1798 وحتى عام 1977 توالت ثورات المصريين دون إنقطاع ضد الإحتلال والإستبداد .
منذ ثلاثين عاما فقط . أدى إرتفاع أسعار بعض السلع الأساسية إلى إنتفاضة شعبية شملت مصر من أقصاها إلى أقصاها . ولم يستطع أنور السادات يومئذ إعادة السيطرة على البلاد الا بعد إستدعاء الجيش . لكن من يقارن بين إنتفاضة 77 وبين مايحدث الأن فى مصر يتأكد له أن إستعداد المصريين للثورة قد ضعف كثيرا عما كان عليه منذ ثلاثين عاما .
إن المصريين يعانون اليوم من المظالم أضعاف ماكانوا يعانونه عام77 .. لكنهم يبدون أقرب إلى اللامبالاة والتبلد , وكأنهم فى حالة من الغيبوبة . كأنهم واقعون تحت تأثير مخدر قوى قد أصاب إرادتهم بالشلل وجعل ردود أفعالهم بطيئة ومشوشة ..
فما طبيعة هذا المخدر وكيف وقع المصريون تحت تأثيره ...
(2)
فى عام 1979 إندلعت الثورة الإسلامية فى إيران . وقد شكلت تهديدا حقيقا للنظام الحاكم فى السعودية . أولا لأنها قدمت نموذجا إسلاميا ثوريا مختلفا عن النموذج السعودى الوهابى المتعاون منذ نشأته مع الولايات المتحدة والدول الإستعمارية .
وثانيا لأنها ثورة شيعية والشيعة موجودون بكثافة فى دول الخليج وقد دفع الخطر الإيرانى النظام السعودى إلى إنفاق ملايين الدولارات على مدى ربع قرن . لنشر الفكر السلفى الوهابى فى مصر والعالم العربى . وقد ساعد على ذلك إرتفاع أسعار البترول بعد حرب أكتوبر مما أعطى للنظام السعودى قوة غير مسبوقة ..
أضف لذلك توجه أنور السادات إلى إضفاء الطابع الدينى على الدولة المصرية ..
كما أن ملايين المصريين . تحت ضغط الفقر وإغراء المال قد تكالبوا على عقود العمل فى السعودية حيث عملوا سنوات وعادوا مشبعين بالإفكار السلفية الوهابية .
وقد أدت كل هذه العوامل مجتمعة إلى مايمكن تسميته ب( سعودة المجتمع المصرى )
بمعنى خضوع مصر إلى تأثير سعودى كاسح والمراقب للحياة اليومية فى مصر يكتشف ذلك بسهولة . فهناك أحياء بأكملها فى المدن وقرى بأكملها فى الريف معظم سكانها عملوا فى السعودية لفترة ما .. والمظاهر السعودية منتشرة فى كل مكان بدءا من الأزياء مثل الإسدال والنقاب والجلاليب البيضاء إلى ألفاظ التخاطب اليومية وإغلاق المحلات للصلاة وخلع الأحذية خارج المساكن .. وحتى الإعتماد على الفقهاء فى كل كبيرة وصغيرة . على أن التأثير السعودى يتعدى ذلك إلى ماهو أخطر . فلم يعد الأقباط فى نظر قطاع من المصريين مواطنين كاملى الأهلية . كما أسست لذلك ثورة 1919 بل أصبحوا طبقا للفكر الوهابى كفارا وعبدة للصليب أو فى أحسن الأحوال ذميين يجب أن يدفعوا الجزية صاغرين حتى يعيشوا آمنين .
أما المرأة المصرية التى كانت قد قطعت شوطا عظيما فى التحرر منذ بداية القرن العشرين فالمصريون الوهابيون الذين لا يتحرجون من لعن قاسم أمين وهدى شعراوى وكل رواد تحرر المرأة ,, يعتبرونها صراحة كائنا أقل من الرجل . وهم ينظرون إليها ليس بإعتبارها كائنا إنسانيا مساويا للرجل فى الإمكانات والحقوق وإنما بإعتبارها وسيلة لمتعة الرجل ومصنعا لإنجاب الأطفال وضحية جنسية محتملة فى أى لحظة ..
المرأة فى نظر الوهابيين كائن لا يتمتع بإرادة كاملة ضد الغواية وبالتالى من الواجب تغطيتها بأقصى مايمكن وعدم السماح لها بقيادة السيارات والسفر البعيد دون حراسة رجلها ليحميها من الآخرين ومن نفسها .. كل ذلك بالإضافة إلى إعتماد الفكر السلفى الوهابى على النقل دون العقل والخلط بين التاريخ والدين وتقديس مالم يدع الإسلام إلى تقديسه وعدم القدرة أو حتى الرغبة فى تنقية التراث الإسلامى من شوائب كثيرة . مما أدى بنا فى النهاية إلى فتاوى شرب بول الرسول و التبرك بعرقه وإرضاع الكبير وتكفير الناس بسبب آرائهم والدعوة إلى قتلهم بإعتبارهم مرتدين ..
(3)
أما أخطر ماتحمله الأفكار الوهابية فهو مبدأ الطاعة المطلقة للحاكم . فلا يجوز فى هذا المذهب إطلاقا الخروج على الحاكم مادام مسلما (( أطع حاكمك المسلم حتى ولو سرق مالك وجلد ظهرك ..)) كما قال بعض الفقهاء الوهابيين .. يجب علينا أن نطيع الحاكم المسلم وننصحه بالحسنى ولكن لانخرج عليه أبدأ ..
أما بالنسبة للحاكم الذى كفر بوضوح وصراحة (( وهو إفتراض نظرى لن يحدث أبدأ لأن كل الطغاة فى عالمنا الإسلامى يؤدون العبادات أو يتظاهرون بأدائها ))
حتى إذا كفر الحاكم فأن الفكر الوهابى يربط الخروج عليه بالقدرة على تغييره ..
فإذا تبين أن تغييره بالقوة غير مستطاع فعلى المسلم أن يطيعه حتى يبدله الله كما قال الشيخ عبد العزيز بن باز .......
خطورة هذه الأفكار أنها تنزع عن الناس حقوقهم السياسية بالكامل .
أن الفكر الوهابى المتشدد فى الشكل والأزياء وكل ماهو غير جوهرى يؤسس لمبدأ الطاعة المطلقة للحاكم وبالتالى للإستبداد السياسى الكامل ..
من هنا نفهم لماذا يحتفى النظام المصرى بشيوخ الوهابيين ويفرد لهم مساحات كبيرة فى الإعلام القومى لأن أفكارهم فى النهاية تخدم الإستبداد .. فى كتابه المهم (( ظاهرة الدعاة الجدد )) يشرح الأستاذ وائل لطفى . أن كل الدعاة الجدد فى مصر بلا إستثناء واحد تربطهم علاقات وطيدة بالنظام السعودى وبأجهزة الأمن المصرية .. ومن هنا فأن دعوتهم للدين تقتصر على مكارم الأخلاق العامة والعبادات دون التطرق إطلاقا إلى العمل العام أو الحقوق السياسية .
لعلنا نذكر كيف دعا عمرو خالد أتباعه من الشباب إلى الإمتناع عن التظاهر تضامنا مع الفلسطينيين أيام الإنتفاضة والإكتفاء بالصلاة والدعاء من أجلهم .
إن ثقافة الطاعة المطلقة للحاكم التى يروج لها المذهب الوهابى هى المسؤلة عن حالة الغيبوبة التى تمنع المصريين من الثورة لأنها تهيئهم لإحتمال الظلم وتستبعد أى فكرة ديمقراطية عن اذهانهم فالديمقراطية لاتوافق الوهابيين أبدأ لأنها تعنى حكم الشعب لنفسه بينما هم يريدون ما يعتبرونه حكم الله الذى سينفذه الحاكم ولو بالقوة والقمع .
من هنا نستطيع أن نفسر تناقضات كثيرة تحدث فى مصر . فالمصريون الوهابيون يحشدون المظاهرات الكبرى إحتجاجا على منع الحجاب فى مدار فرنسا الحكومية التى هى بلد علمانى أساسا ... أو لإن رسام كاريكاتير دانماركى متعصب أساء للرسول صلى الله عليه وسلم .
لكنهم . فى نفس الوقت لايتظاهرون أبدأ ضد الديكتاتورية وتزوير الإنتخابات وتوريث البلد بأسره من الأب للأبن وكأنه مزرعة دجاج ..
ان هذه ببساطة طريقة قراءتهم للإسلام .. ففى الفكر الوهابى لا توجد حقوق سياسية ولا مواطنة ولا إنتخابات ..
والطاعة واجبة على الجميع مادام الحاكم مسلما .....
(4)
أخيرأ أرجو ألا يفهم هذا المقال على أنه ضد التدين والمتدينين . فأنا أرى فى الإسلام العظيم ثورة إنسانية كبرى علمت العالم مبادىء العدل والحق والحرية .
لكن علينا أن نميز بين الإسلام الحقيقى وبين الفقه المتخلف الذى إستعمله المستبدون طيلة التاريخ الإسلامى لتدعيم سلطانهم الظالم .
كما أن الإسلام – مثل الأديان جميعا- من الممكن قراءته بطرق مختلفة وأحيانا متناقضة .
وقد كانت القراءة المصرية للإسلام منفتحة . معتدلة ومتحضرة . . مثل مصر ذاتها .
أما الأفكار السلفية الوهابية فهى تحمل بخلاف التشدد والتخلف نزوعا حقيقيا للإذعان والإستسلام للظلم .
إن ما يدور فى مصر الآن ليس معركة واحدة وإنما معركتان .. معركة من أجل الديمقراطية والحرية .. والمعركة الأخرى التى لاتقل أهمية عن الأولى تدافع فيها مصر عن فهمها المتحضر للإسلام ضد الأفكار الوهابية المتخلفة عن العصر ... المنافية لروح الإسلام نفسه ..
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية