بين موت افتراضيّ -حتى الآن- للكاتب السعودي جمال خاشقجي، وموت مؤكَّد -حتى الآن- لأربعة عشر سورياً في مخيّم "الركبان"، يظهر زيف العناوين الإنسانية التي غالباً ما يتشدَّق بها الإعلامَان العربي والعالمي.
بين اهتمام غير مسبوق لتغييب شخص، وإهمال غير مسبوق لتغييب 55 ألف شخص، يبرز الإعلام عارياً من يافطاته الإنسانية وشعاراته الزائفة عن تغليب الإنساني على السياسي في نقل الأخبار.
حجم الاستقطاب السياسي المسيطر على ذهنية الإعلام بلغَ حدوداً مرعبةً سمحتْ له بالاعتقاد بقدرته على إعادة تعريف "الإنساني" وفق المصالح السياسية، وبالتالي الاعتقاد بقدرته على ترتيب الأولويات السياسية وكأنها أولويات إنسانية!
هذه اللعبة المضلِّلة صنعتْ مسطرةً إنسانيةً ذات وحدة قياسٍ سياسيةٍ. بمعنى أن القضايا باتت تستمدّ عمقها الإنساني من فاعليتها السياسية فحسب.
مأساة مخيَّم "الركبان"، وهي جزء من قضيةٍ أكبر فقدت الكثير من زَخَمها السياسي، لم يعد لها مكانٌ وسط زحمة الأخبار المتعلّقة بحدث تغييب جمال خاشقجي.
وهكذا، وبالطريقة الأكثر مأساوية، تحقَّقت المقولة أو المثل الشهير عن الشجرة التي حجبت الغابة.
شجرة خاشقجي حجبتْ غابة مخيَّم "الركبان".
55 ألف مشرَّد سوري في مخيَّم "الركبان"، بلا غذاء ودواء، يحاولون الظهور على شاشة الأخبار من خلف كتفَي جمال خاشقجي، ولا ينجحون.
وجه خاشقجي الوديع يحجب، بلا قصدٍ، الوجوه المغبَّرة والبائسة لعشرات آلاف السوريين -غالبيتهم من النساء والأطفال والشيوخ- المهدَّدين بانتشار مرض التهاب الكبد الوبائي، والذين هم في أمسّ الحاجة في هذه الساعات إلى كاميرات الإعلام لتنقل مأساتهم إلى العالم فيسرع لنجدتهم.
لو استطعنا الوصول إلى خاشقجي الآن -وهو المناصر للقضية السورية- وأخبرناه بما يحصل لأزاح نفسه قليلاً من الشاشة وأفسح المجال لسوريي مخيَّم "الركبان"، لكي يَظهروا في نشرات الأخبار ويرووا مأساتهم.
لكنَّ خاشقجي ومشرَّدي مخيَّم "الركبان"، وعلى السواء، لا يملكان من أمرهما شيئاً. كلاهما مغيَّبان.
لقد بات الزخم الإنساني لأي قضية مرتبطاً بزخمها السياسي، والقضية الضعيفة سياسياً ضعيفةٌ إنسانياً.
سمكة المأساة التي لا تجيد السباحة في حوض السياسة محكومٌ عليها بالموت.
لذلك، ومع تراجُع الحدث السوري في قائمة الاهتمام الدولي، يموت مشرَّدو مخيَّم "الركبان" الصحراوي على الحدود السورية -الأردنية بلا ضجّة ولا محقّقين ولا كاميرات... تارةً بسموم العقارب والأفاعي، وطوراً بسموم إعادة تعريف "الإنساني" في معجم الأجندة السياسية.
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية