لوهلة، اعتقد الإسلاميون أن الثورة منتصرة بوقت وجيز، فساروا في ركبها، والتحموا معها حقيقة، قدموا بعض ما يملكون لها تماهيا مع هذا الاعتقاد، لكنهم بمرور الشهور تيقّنوا أن الطريق طويل، فقرروا اكتناز مدخرات توصلهم أقوياء عندما يتعب الجميع.
خبؤوا السلاح ومنعوه، خصوصا عن الجيش الحر، واشترطوا لتقديمه الولاء، ولم يشترطوا إعلان ذلك، بل حبّذوا إخفاءه واحتفاظ الفصائل التي التحقت بهم طمعا بالسلاح والدعم بمسمياتها القديمة، على أن تسير كما يوجهونها، وفي الشقّ المدني والإغاثي "وهم الأكثر ثراء وخبرة" قتّروا إلى حد التجويع لشراء مواقف الجائعين والمقهورين.
وفي الجانب السياسي، تسيّدوا المشهد بكامل تفاصيله عبر مسمياتهم المختلفة، ودفعوا بسخاء للمعتدلين كسبا لأصواتهم أو على الأقل حيادها، وفي السياق ذاته كان لهم القرار في تسمية معظم التظاهرات التي كانت تخرج أيام الجمعة، وكانت كل تلك التسميات تهدف للترويج لهم بشكل مباشر وموارب.
لا يمكن القول بمشروعية تلك الممارسات، لكنها موجودة بشكل عام في سياسات الأحزاب المتنافسة وفي ظل الديكتاتوريات، إلا أن وجودها في الثورات خيانة لها، وطعنات في الظهر، فيما يتولى النظام الطعن في الصدر والوجه.
أكثرمن ذلك، هو الإصرار على التحكم بمفاصل العملية التربوية، وفي هذا ما كان الإسلاميون يرفضون النقاش فيه أو التنازل عنه، لقد تحوّلت مدارس الداخل والمدارس السورية في تركيا إلى بيوت أشبه بمواخير الماسونية، لكنها هنا إسلامية متشددة في إطار مرسوم بعناية يقود الجيل إلى النسق الإسلامي الذي يمثّلون.
من أجل الوصول إلى السلطة ارتكبوا كل الجرائم بحق الشعب السوري تحت ستار الدين، وهو المدخل الرخو للتسرّب منه إلى الجميع.
دلائل كثيرة حملتها تطورات السنتين الأخيرتين من عمر الثورة تشير إلى أن الشعب السوري اكتشف لعبة المتأسلمين، وبدأ برحلة البحث عن بديل شريف، لكن كل العالم وقف ضده ولم يترك له فرصة صغيرة للنجاة، مع هذا الحال وجد الإسلاميون أن سياسة الترهيب والترغيب لم تثمر كما خططوا، فقرروا الإبقاء على الترهيب وحده.
استغلوا الرغبة الدولية التي ترافقت بالضغط السياسي والعسكري من أجل القضاء على الفصائل المصنّفة على قائمة الإرهاب، فجمعوا كل الفصائل تحت قيادتهم بمسمى الجبهة الوطنية للتحرير، وهذه المرة دون مواربة، بدعم تركي يظنّونه استراتيجيا لكنه في الحقيقة تكتيكي مرحلي، وأعلنوا جاهزيتهم لقتال جبهة النصرة وحراس الدين وغيرها، رغم أن هذه الفصائل الإرهابية نهلت من علومهم وانبثقت من بين صفوفهم برعاية بشار الأسد ونظامه، إلا أنهم من أجل تحقيق ما يريدون يملكون الاستعداد لقصّ ذيلهم، وأكثر.
استشفّ الإسلاميون أن النظام مستمر حيث هو "وأظنهم على خطأ"، ورغبة دولية باستعادة نفوذه على غالبية الجغرافية السورية، وفهموا أن الغرب لن يسمح لهم بقيادة البلد حتى لو رضي بإزاحة بشار الأسد، فقرروا تهيئة الأجواء ليكونوا شريكا له في السلطة، وأحصوا حصتهم فوجدوها أقل مما يطمحون، لذلك يعملون على إقصاء كل الشركاء للبقاء بمفردهم إلى جانب الأسد يتناصفون المشهد القادم.
بالأمس تابعوا لعبهم القذر، واستغلوا غضب السوريين من ضعف أداء الهيئة العليا للمفاوضات، فدفعوا باتجاه سحب الشرعية منها، لأنها ليست تحت سلطتهم بالكامل، لإعادة الائتلاف الذي تعفّن بوجودهم فيه إلى الواجهة، ولديهم خطة بديلة إن فشلوا في إعادته إلى الصدارة، إذ يعدّون لتشكيل جسم جديد يدّعون أنه يمثل الحراك الثوري السلمي في الشمال السوري، ومعلوم أنهم اندفعوا كثيرا باتجاه تنشيطه، وقدموا له الدعم المادي والإعلامي.
الإسلاميون مستعدون للتضحية "ظاهريا" بعدد من رموزهم ممن عملوا في هيئة التفاوض، وبعض قياداتهم التقليدية إن اضطروا لدفع تشكيلهم الداخلي إلى الواجهة، إلا أنهم سيجعلون في قيادته كراكوزات يسيّرها الأشخاص المألوفون ذاتهم، فهم عشاق سلطة لا يحيدون عن ذلك.
ما لا يعرفه هؤلاء الساعون للسلطة أو بعضها، أن هناك توجها غربيا لإزالتهم من المشهد مع النظام الذي اتفقت مصالحهم معه مؤخرا، وبناء جسم سياسي لا وجود لهم فيهم يكون بديلا مقبولا داخليا وفي محيطه الإقليمي، ولن ينفعهم كل ما اكتنزوه ومنعوه عن السوريين المقهورين، وما عليهم للعودة إلى المشهد طويل المدى سوى القبول بالآخر المختلف، والعمل بصدق وشفافية في كل المجالات.
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية