تقطع الولايات المتحدة مساعداتها عن الأونروا فتقوم قيامة العرب شرقا وغربا ويبدأ الإعلام العربي حفلة شتائم لا تنتهي وكأن المؤسسات الإعلامية العربية لم تصدق أنها وجدت مادة للعلك والإلهاء، فمثل هذه المواضيع تعتبر مكسبا إعلاميا لكل الصحفيين الحكوميين في كل الدول العربية وفرصة لتبرئة ساحة الأنظمة العربية من مأساة الشعب الفلسطيني ومعاناته اليومية إن كان في دول الشتات العربي أم في مخيمات غزة وغيرها.
لا يتجاوز المبلغ الذي كانت تدفعه واشنطن للأونروا الـ300 مليون دولار ما يعني نصف ثمن يخت لأمير عربي أو ما يعادل سهرة صيفية لأمير آخر في مصيف أوروبي، ولكن المطلوب أن تنسى هذا وأن تلعن واشنطن وتحقد على الغرب وتتناسى أن سبب مصائبك هم حكامك في أول الأمر، أين هي أرباح الحروب؟ هل لنا أن نتساءل عن نصيبكم من صفقات الأسلحة وصفقات الأدوية وصفقات السيارات وصفقات دمنا ودم أطفالنا؟ موضوع الأونروا لا يعدو عن كونه لهايّة تضعها الأنظمة العربية في فم الشعب الطفل، فيسكت إلى حين ظهور حكاية جديدة يكون الغزل عليها ممكنا، فيتم إعدادها لتكون الملهاة الجديدة.
وزير الخارجية الأردني السيد أيمن الصفدي يقول في مؤتمر صحفي أمس (الخميس) إن قرار واشنطن (أوقعنا في ورطة فلم نكن نعلم إن كان 500 ألف طالب فلسطيني سيتمكنون من الذهاب إلى مدارسهم أم لا). يا سيادة الوزير أنا شخصيا أصدقك، ولكن عليك إقناع الشعوب العربية بأن أنظمتها عاجزة عن تسديد هذا المبلغ للأونروا فيما أمراؤها وأثرياؤها يدفعون المليارات لشراء أندية رياضية، وعليك إقناع المسلمين بأن 400 مليار دولار دفعتها السعودية لواشنطن دون أن يعرف أي مواطن عربي من المحيط إلى الخليج ما هي البضاعة التي اشترتها السعودية من الأميركيين لقاء هذا المبلغ الفلكي.
من الطبيعي أن يكون موضوع قطع المساعدة الأمريكية عن الأونروا حديث الساعة في الإعلام العربي ومن الطبيعي أن يتم إغراق المواطن العربي في بحر من التصريحات والمعلومات عن هذا الموضوع في محاولة لجعل كل مشاكل الشعوب العربية بسبب الغرب وبسبب قرار واشنطن السيئ الذكر.
علكة أخرى يرميها الإعلام العربي الرسمي في أفواه الشعب العربي وهي الرياضة خاصة مع ظهور "محمد صلاح" كنجم مصري لامع فعلا في سماء كرة القدم، ولكن ليس لدرجة أن الإعلام العربي بات يخصص من كل صحفه الرسمية 3 مواضيع يومية فلا تخلو جريدة عربية من أخبار هذا النجم الذي لا ذنب له في كل ذك إلا أنه اجتهد وتعب على نفسه ليصل إلى هذا المستوى وأنا على قناعة أن الإعلام العربي يكسر ظهر "محمد صلاح" في كل مقالة ويضع على كتفيه عبئا ثقيلا فصلاح عبس اليوم ، محمد صلاح ضحك اليوم، محمد صلاح عطس هذا المساء ، ليتحول هذا النجم (دون قصد منه وربما دون رضى) إلى علكة يتداولها الإعلام العربي وإلى حقنة مسكنة لا دور لها سوى إسكات وجع الشعوب العربية المقهورة وإن كان لفترة بسيطة ويتحول معه الاهتمام العربي من السياسة إلى الرياضة ومن الدوري الاسباني إلى الدوري الإنكليزي، ذلك أن الاستثمارات العربية بدأت تنسحب من النوادي الاسبانية إلى النوادي الإنكليزية والإيطالية.
حقنة المورفين الأقوى عند الإعلام الرسمي العربي أو المدعم من الأنظمة، هي الدين طبعا نظرا لمكانته عند الإنسان بشكل عام وليس عند العربي، فحسب إذ تفتح المحطات العربية باب النقاش حول "البخاري" على سبيل المثال، وهل ما قاله "البخاري" صحيح أم أنه يحتاج إلى مراجعة وتصحيح؟، هل هناك أحاديث مدسوسة عن النبي صلى الله عليه وسلم أم أنها جميعها موثقة الرواة والإخراج؟ وهكذا يتحول الدين إلى مشكلة يتلهى بها الشعب حتى ظهور موضوعات مغرية بالنسيان.
وننسى فعلا أن مشكلتنا ليست في "البخاري" ولا في كتبه، وإنما في أنظمة قتلت فكرنا وعقولنا وسحقت كرامتنا، في أنظمة تاجرت بجوعنا وأذلتنا، ننسى أن مشكلة الشعوب العربية في فساد أنظمتها وحكامها لا في دينها وبخاريها وأن مصيبتنا في حاضرنا لا في ماضينا.
قد يقول أحدكم: ولكن التاريخ متواصل في الحاضر، وأرد فأقول إن هذا صحيح لأن الأنظمة أرادت للتاريخ أن يكون ماثلا وحاضرا دوما في كل صباح يصادفنا، وإلا ما هي مبادئ حزب البعث على سبيل المثال؟ ألا تقوم فكرة حزب البعث على مفهوم إعادة بعث تاريخ الأمة المجيد؟ ألا ترون أن هذا الفكر سلفي مثله مثل أية فكرة متطرفة أخرى؟!
إن العقل ابن حاضره وليس ابن ماضيه وهو نتاج اللحظة لا نتاج ما انتهى قبل ألف عام عقولنا ومعظم القيم والمبادئ التي نحكم من خلالها على الحياة هي إنتاج أنظمة أرادتنا أن نكون تاريخا لا حاضرا، أرادت أن يصبح الماضي حلما فنترك الحاضر للتجار والفاسدين واللصوص.
كانت حجة تخلفنا سابقا في الإعلام العربي هي الاستعمار وحين اكتشفت الشعوب العربية أن أنظمتها هي صنيعة الاستعمار الذي تدعي هذه الأنظمة محاربته وجد الإعلام الرسمي حجة جديدة، وهي إسرائيل، فاكتشفنا أن كل الأنظمة العربية تقيم علاقات مع إسرائيل سواء في العلن أو في السر، واخترعت الأنظمة حجة جديدة لتخلفنا وهي الدين وصار النقاش حول دور الدين في تخلفنا أو تطورنا عبر إعادة أمجاد الماضي، وهكذا عزيزي المواطن العربي تستطيع أن تكتشف كل شيء وأن تناقش كل شيء، إلا فساد الأنظمة فهي بريئة من تخلفك وبريئة من سرقتك وبريئة من نهبك وهتك عرضك وكل الحق على الاستعمار والامبريالية وإسرائيل والإسلام وأن سبب نكبتنا هو إصابة "محمد صلاح" في ركبته.
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية