أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

عن صورتنا المعلقة على جدار البيت.. عبد الرزاق دياب*

درعا - جيتي

لست أنا ذلك المعلق على جدار بيتي أو في صدره كما يقال..بمسمار واحد مشنوق من أعلى جبهتي أو أسفلي، وإنما أنا ببساطة مواطن ذلك الذي ابتلعته السنوات القليلة الماضية، وتحول بسرعة إلى لاجئ أو مهجر ومطرود أو حتى بينهما، وآخرون مثلي صاروا شهداء وقتلى ومعتقلين ومغيبين أو موتى بالتعذيب، ولكننا جميعاً نتقاسم هذا الشعور بالدهشة عندما نتذكر صورتنا السابقة التي تركناها هناك..ربما على جدار محطم.

في الشتات..أي شتات صرناه اليوم نمارس حياتنا إما على صورتنا الجديدة، أو وفق ما صيرتنا إليه الحياة الجديدة، في الأولى نحن البشر الذين خرجنا عنوة أو على هوانا نكرر ما أوصلنا إلى بيوتنا الآنية، ومارسنا عن عمد كل طقوس البلاهة والنفاق والضغينة، ولم نتعلم أن نغيّر جلدنا السميك، وأن ندرب يدنا البليدة أن تشير نحو آثامنا، والثانية نحن المواطنون الجدد في الدول التي انتشلت ذعرنا في البحر أو عبر الحدود أو من الطائرات انسلخنا عن كل ما في الوطن، وعوّدنا ذواتنا على أنموذج الرخاء والنسيان، وهؤلاء الذين تركناهم خلفنا هم نحن السابقون. 

هي ليست صورة شاعرية فالواقع أكثر قسوة من الكلمات، وبعض سوريتنا يئن، وما بقي إما مأسوراً في أرواحنا أو صفعناه على قفاه ليصمت...ولذلك نخسر في كل يوم قطعة من تلك الصورة في عقولنا بعد أن خسرنا الجدران والبيوت والحنين.

اعتركنا في السياسة والإعلام وعلى الجبهات، ولم نترك ثقباً لم نمد فيه إصبعنا الوسطى على أمل أن نسدّ كل بصيص للنجاة، وحلم أن نعود نحاول أن نبقيه بعيداً، فهنا في البلاد الجديدة بالرغم من التضييق والحصار ما زلنا قادرين على الصمود الكاذب، وأما بقايا المتصارعين بالسلاح، فيبحثون عن بقايا أرضٍ يكتبون على جدراها عبارات النصر، وصمت الخيبة.

المتربصون بنا في الوطن تنتفخ أوداجهم من الضحك، وكروشهم تتضخم على حساب الجوعى والفقراء الذين لم يستطيعوا مغادرة بيوتهم إلى الشتات المنشود، وهم مثلنا في غيّهم اعتقدوا أنهم أبناء البيت الجديد الذي بنوه من بقايا البيوت المدمرة، وأنهم هزموا ثلة النقيق التي تزعج ليلهم الهادئ، وما حولهم من موت وما فوقهم من سادة هم من سيمشون معهم نحو النهايات السعيدة.

الحرب لن تغادر وطننا القديم، وفي الشتات نصنع أوطاناً لأحلامنا الصغيرة ورغبات الجشع فينا، وقد بدأنا باقتسام الخيبة على شكل بيت مستأجر، وجامعة لأبنائنا الذين هربنا بهم، وحساب بنكي نعتقد أنه سينجينا من الموت في صقيع الغربات.

في الوطن القديم ثمة من يعتقد أنه اليوم في مأمن من القادم الأسوأ، وأن من يحملون السلاح يحملونه لأجله، وأنه يختلف عن هؤلاء المرتعدين الذين فروا من البلاد التي بات هو أولى بها..وهو تماماً يشبه ابن البلد الذي خرج ليمارس نفس الاعتقاد أنه أولى بالغنيمة ولو كانت غرفة ضيقة كتب على بابها وكالة (إعلان) أو (غرفة عمليات)...كلاهما أضاع الصورة التي كانت على جدار ذاك البيت.

*من كتاب "زمان الوصل"
(208)    هل أعجبتك المقالة (196)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي