تستعجل روسيا عودة اللاجئين السوريين إلى مدنهم وقراهم التي هُجروا منها منذ اندلاع الثورة السورية وبدء الأعمال القتالية نهاية عام 2011، وذلك لتأكيد انتصارها في حربها ضد (الإرهاب) ما يعني في الوقت عينه تأكيد التواجد الروسي عالميا وقدرة موسكو على حلّ القضايا الإقليمية والدولية بفاعلية وأنها قادرة بديبلوماسيتها ونفوذها على فرض السلام والأمن الدوليين فتعويم بشار الأسد وإعادة تكرير نظامه يؤشران على قوة الحضور الروسي.
النظام بدوره يستعجل العمل على ملف عودة اللاجئين ليؤكد للعالم أن النازحين هم ضحايا الإرهاب الذي انتصر هو عليه ونجح في إعادة الأمن والأمان القضاء على أسباب النزوح، وينفي بذلك دوره في التهجير القسري ودفع المدنيين لمخيمات اللجوء هربا من قصف طائراته ومدافع جيشه وبراميله المتفجرة، كما أنه يريد أن يسهم مع أفراد عائلته وبشكل شخصي في عمليات إعادة الإعمار لتعويض ما فقدته ثروة العائلة خلال السنوات السبع الماضية كمرتبات لبعض فصائل الشبيحة وللحملات الدعائية التي قامت بها العائلة في أكثر عواصم العالم تأثيرا، كما أن إعلان انتصاره يعي صوابية موقفه في اللجوء إلى الخيار العسكري كحل وحيد للقضاء على ما أسماه بداية (انتفاضة العملاء) ومن ثم أطلق تسمية (الإرهاب) بعد انتشار العمليات العسكرية والتسلح في صفوف الثورة.
إيران بدورها تستعجل حصد نتائج دعمها للأسد ونظامه اقتصاديا وسياسيا وعسكريا وهي التي تمر بمنعرجات اقتصادية خطيرة فاقمت في إحداها العقوبات الاقتصادية الأميريكية الأخيرة وانسحاب دونالد ترامب من الاتفاق النووي ما أدى في النتيجة إلى تزايد النقمة الشعبية في الداخل على حكم الملالي وأثار تساؤلات عدة في الشارع الإيراني حول الجدوى من الخسائر التي دفعتها طهران في الحرب السورية.
وحدها الصين تغرد خارج سرب هذا الحلف الثلاثي، وقد أعلن مسؤولوها أن عملية إعادة الإعمار لن تتم إلا في ظل اتفاق سياسي، وبذلك تنضم بكين إلى قائمة الدول القائلة بأن لا عودة للإعمار في سوريا دون اتفاق سياسي يفضي إلى انتخابات ودستور وبرلمان جديد يمثل كافة شرائح المجتمع السوري وفئاته.
حتى الأمم المتحدة تعلن على لسان مسؤولي الهجرة أن الأوضاع في سوريا لا تشجع حاليا على عودة اللاجئين إلى ديارهم وتصريحات المسؤولين الأمين تدعمها تصريحات زعماء دول كبرى منها الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا، وكذلك دول الإقليم الغنية القادرة على تمويل عملية الإعمار كالسعودية على سبيل المثال.
يصر النظام على عودة المهجرين وفقا للوضع السوري قبل آذار 2011 والقفز فوق دماء مليون شهيد وآلاف البيوت المدمرة ومئات آلاف مجهولي المصير والكثير من الحقوق المضيعة.
بمعنى أنه يريد أن يعود بالوضع للسيطرة السابقة وكأن شيئا لم يكن وهذا لا يمكن أن يمر بأي شكل من الأشكال حتى وإن وافقت عليه مؤسسات المعارضة الرسمية (الائتلاف وهيئة التفاوض)، فالعودة في ظل هذه الشروط المهينة أولا وغير الآمنة ثانيا مرفوضة بين صفوف جمهور المعارضة، لأن المسألة ليست تأمين رغيف خبز فقط وهي تتجاوز أيضا مواضيع مثل الأمن تحت الذل أو الأمن وفقا لمفهوم النظام والذي يعني الطاعة العمياء الانصياع الغريزي والإقصاء والعيش تحت خوف الاستدعاء والمساءلة.
لا بد من التفريق هنا بين لاجئين يعيشون في خيام وفي ظروف معيشية قاسية ومهينة إنسانيا، ولربما هربوا فعلا من الأعمال القتالية خوفا على حياتهم وحياة عائلاتهم وأسرهم بغض النظر عن المتسبب وبين من خرج هربا من البطش والتنكيل، وهو يدرك حقيقة الموقف ويؤمن أن التضحيات التي قدمها الشعب السوري لا يجب أن تذهب هدرا وأن هناك أثمانا باهظة قد تم دفعها ولا بد من تحقيق مكاسب تتعلق بالديمقراطية والحريات.
إن العودة إلى ما قبل آذار 2011 أمر بات في حيز المستحيل وقد يرى البعض في هذا الكلام تجديفا أو قراءة للطالع، ولكني أتكئ على مبادئ التاريخ التي تؤكد أن الشعب السوري لن يعود للوراء وأننا لن نرضى بقديم الاعتذار لنظام أمعن في قتلنا وتشريدنا هو وعصابته وأن الشريحة الأوسع من المعارضين مازالت -برغم كل الانكسارات- مؤمنة بالفعل الثوري وأن أزمة النظام لن تنتهي بهذه الطريقة لا بقوة موسكو ولا ببطش ملالي طهران.
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية