أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

من كواليس قضاء الأسد.. مصير القاضي الذي أفرج عن متهم باغتصاب 15 طفلا في إحدى قرى الساحل

• هل رقّى بشار الأسد فعلا "ديكتاتور الجزاء" في طرطوس؟

• والد المتهم عقيد في الجيش، ومحاميه عرض رشوة بالملايين على الأب حتى يسقط حقه
• في ظل اليأس من قضاء الأسد في ملف التحرش، تكاثرت الدعوات للجوء إلى "أبو طاقة"
• في سوريا كثير من أمثال "عمار" لكنهم يمارسون تسلطهم وفسادهم دون أن تلاحقهم وسائل التواصل
• "عيوش" دافع عن القاضي المتورط واعتبر انتقاده بمثابة الهجوم على "عيسى عليه السلام"

حصلت "زمان الوصل" على مزيد من المعطيات التي تخض قضية تحرش واعتداء جنسي على نحو 15 طفلا، صدمت أنباؤها البيئة الحاضنة للنظام في إحدى معاقله الرئيسة بالساحل (طرطوس تحديدا)، وأثارت ضجة استدعت تدخل بشار نفسه الذي أوعز لوزير العدل في حكومته من أجل متابعتها شخصيا.

ويعود تاريخ انتشار القضية إلى أواسط شهر آب/أغسطس الجاري، عندما نشر أب من قرية "كرتو" بريف طرطوس مقطعا تحدث فيه بحرقة عن الفساد الذي يغرق فيه قضاء البلاد، والذي نجم عنه إطلاق سراح متهم باغتصاب 15 طفلا (بينهم ابنه) في القرية، بعد 17 يوما فقط من توقيفه، دون مراعاة لشعور أهالي الضحايا (للاستزادة):

"

"

وانتشر المقطع بسرعة كبيرة في مواقع التواصل محدثا موجة من السخط العام، المترافق مع انتقادات حادة لجهاز القضاء في نظام الأسد، ما دفع بشار نفسه لإرسال وزير العدل "هشام الشعار" شخصيا إلى طرطوس ليتابع القضية، وهو تصرف قلما يحدث في حالات أشد، فضلا عن أن يحدث في مثل هذه الحالة.

وحسب معلوماتنا المؤكدة، فقد انطلق "الشعار" مباشرة إلى المحافظة، مصطحبا رئيس إدارة التفتيش القضائي "عبدالناصر غليون"، لاسيما أن الاتهامات كانت تتمحور حول قاض كبير في المحافظة، يدعى "سلام عمار"، قيل إنه قبض رشوة تزيد عن 4 ملايين ليرة، مقابل إطلاق سراح المتهم بتلك الاعتداءات الجنسية (اسم المتهم زين العابدين يوسف عثمان).

*تكسير
الجديد في التفاصيل التي حصلت عليها جريدتنا معلومات موثقة مع صورة عن قرار صادر عن وزير العدل يحمل الرقم 3381/ل، مبنيا على قرار لمجلس القضاء الأعلى (الذي يرأسه بشار الأسد!) بتاريخ 27 آب الجاري، يضم جملة من البنود، من بينها نقل القاضي "سلام عمار" من منصبه الحالي "قاضي إحالة ثاني في عدلية طرطوس"، إلى منصب "محامي عام في النيابة العامة التمييزية".

وبين مصدق ومكذب، تناول أهالي طرطوس، وبالذات قرية "كرتو"، نبأ القرار الذي اعتبروه بمثابة إهانة جديدة لهم واستهتارا بهم، لاسيما أن أقارب القاضي "عمار" روجوا لقرار وزير العدل، باعتباره نصرا للقاضي وتبرئة له من تهم الرشوة والتواطؤ على إطلاق سراح متهم بجرائم مشينة، في العرفين القانوني والاجتماعي، كما عدوه "تجديدا لثقة القيادة" في القاضي "سلام عمار"، يستحق التهنئة، كما توضح مصادرنا.

وللإضاءة على خلفية قرار وزير العدل وحقيقة خطوة نقل "عمار" (المتهم الأول بالتستر على المدعى عليه في قضايا التحرش بأطفال كرتو).. استعانت "زمان الوصل" بقاض بارز منشق عن النظام، تحدث عن حيثيات ودلالات القضية، وما واكبها وأعقبها من خطوات.

بداية، أكد القاضي المنشق في حديثه لجريدتنا أن نقل "عمار" من منصب "قاضي إحالة" إلى منصب "محام عام في النيابة التمييزية" هو بمثابة تجميد له، ووضعه في مكان "لا يحل فيه ولا يربط"، وبكلمات أقرب لفهم عامة السوريين هو بمثابة "تكسير رتب"، وليس أي "تكسير"، فهو يعادل نقل ضابط رفيع في القوات الخاصة إلى وظيفة إدارية في "التدريب الجامعي".

وشرح ما يقصد بشكل مفصل، مذكرا أن قاضي الإحالة هو أعلى سلطة جزائية في المنطقة التي يعمل فيها، وهو بمثابة "المدير العام" الذي يحق له استئناف ونقض جميع القرارات الصادرة عن قضاة التحقيق المنضوين معه في نفس الدائرة العدلية.

ونظرا لحساسية هذا المنصب وسعة الصلاحيات الموسدة لصاحبه، فإن لا يسند عادة إلا لذوي "الثقة" الأمنية وأصحاب النفوذ من القضاة، فإذا كانت المحافظة مثل طرطوس كان التشديد على مزيد من "الثقة" التي لا يلقّاها إلا أصحاب "التزكيات" الأمنية الموقعة من قبل الرتب العليا، وبناء عليه يمكننا تخيل موقع ونفوذ "عمار".

وأفاد مصدرنا أن قاضي الإحالة يسمى في عرف القضاة "ديكتاتور الجزائي"، نظرا لما لديه من سلطات تؤهله ليكون بالفعل متسلطا متحكما، إذ إن أي قضية لا يمكن أن تصل إلى المحكمة الجنائية إلا عبر بوابة "قاضي الإحالة"، فهو الشخص الذي يتلقى ملفات وقرارات قاضي التحقيق، قبل أن يدرسها، فيوافق عليها (كلا أو جزءا) ثم يرفعها للمحكمة، أو يلغيها (كلا أو جزءا) وكأنها لم تكن.

وبموجب ما لديه من سلطات، يستطيع قاضي الإحالة أن يوافق مثلا على طلب إخلاء سبيل مدعى عليه (مثل المتحرش بأطفال كرتو)، حتى وإن سبق أن رفضه (أي رفض هذا الطلب) قاضي التحقيق في القضية نفسها، وهو بالفعل ما أقدم عليه "عمار" حين تجرأ على إطلاق سراح "زين العابدين عثمان"، رغم أن قاضي التحقيق رفض هذا الطلب.
وأوضح القاضي المنشق في حديثه لجريدتنا أن صدور قرار من وزير العدل يخص "عمار" بعد 10 أيام على انتشار مقطع اتهامه، يدل دلالة قاطعة على ارتباط القرار بملف التحرش، ويشير بوضوح إلى خطأ شنيع للغاية ارتكبه "عمار" عندما أمر بإخلاء سبيل مشتبه به في قضية لها حساسية عالية في المجتمع السوري، وهي قضية التحرش بأطفال والاعتداء عليهم جنسيا.

وتابع: لا يبدو لي إن إقدام "عمار" على إخلاء سبيل المشتبه به هو الخطأ الشنيع الوحيد في الملف، ولو كان هذا هو الخطأ الوحيد لما أمكن زحزحة قاض بقوته ونفوذه من مكانه، وهو ما يرجح لدي أن تهمة تلقي الرشوة قد ثبتت عليه؛ ما جعل "داعميه" يرفعون الغطاء عنه، ودفع باتجاه قرار يجمده و"يهوي" به إلى منصب يتحاشى أي قاض أن يحال إليه يوما ما (محام عام في النيابة العامة).

*عقوبة متساهلة
ولكن هذه العقوبة على شدتها الظاهرة (نقله من قاض إحالة إلى محام عام)، هي وللمفارقة، كما يقول القاضي المنشق عقوبة متهاونة وخفيفة قياسا إلى ما ارتكبه "عمار"، إذا إن ثبوت الرشوة (رسميا) كفيل بتسريح أي قاضي من سلك القضاء نهائيا (حسب الأنظمة والقوانين)، وهنا يبدو أن "واسطة" عمار وانتماءه لعبا دورا في تخفيف العقوبة وجعلها أقل بدرجات مما يمكن أن يستحقه أي قاض آخر ليس لديه نفوذ "عمار" أو ينتمي لطائفة أخرى.

ولفت القاضي المنشق إلى أن متابعته للقضية أظهرت عدة شوائب وخروق، ومن أهمها عدم قيام قاضي التحقيق بواجباته على أتم وجه فيما يخص قضية التحرش، حيث يفترض في مثل هذه القضية أن لاينظر في أي طلب لإخلاء سبيل المدعى عليه قبل أن يحضر أولياء أمور الأطفال ليسألهم إن كانوا ينصبون أنفسهم كمدعين شخصيين على المتهم، وعلى قاضي التحقيق أن يبادر بنفسه إلى هذه الخطوة، لا أن ينتظر أولياء أمور الأطفال ليبادروا هم. 
وردا على من قال إن "عمار" ربما قرر إطلاق سراح المشتبه به لظروف قدرها بنفسه (أي قدرها عمار)، قال القاضي المنشق إن هذا كلام مجاف للحقيقة وحتى لعرف وتاريخ المحاكمات، التي تجعل القاضي يتورع نهائيا عن إطلاق سراح أي مشتبه به (لو مجرد اشتباه) في قضايا جرمية من عيار: القتل، الاغتصاب، التسبب بعاهة، السرقة الموصوفة، فكيف الحال بجريمة تحرش ضحيتها أطفال.

وأضاف: القضايا التي ذكرت آنفا قلما يتدخل قاضي الإحالة فيها، بل إن معظم هذه القضايا تتابع طريقها إلى محكمة الجنايات وتنتقل تلقائيا من قاضي التحقيق إلى قاضي الإحالة، فمحكمة الجنايات التي تصدر حكمها بالبراءة أو الإدانة.

وخلص القاضي المنشق إلى التأكيد من جديد على قوة سلطات قاضي الإحالة، التي تخوله أن يكون البوابة الإجبارية لمرور القضايا إلى محكمة الجنايات، والمعقب الأول على قرارات قاضي التحقيق (تأييدا أو إلغاء)، والمرجعية والحَكَم الذي يمكن أن تلجأ إليه الأطراف (المدعية والمدعى عليها) عندما تشتكي من "إجحاف" أو "جنف" قاضي التحقيق.

وواصل: قليلة هي الحالات التي ينقض فيها قاضي الإحالة قرارات قاضي التحقيق، لأنها بالأساس حالات استثنائية، كأن يتهم قاضي التحقيق شخصا براءته واضحة كعين الشمس، أو يبرئ شخصا غارقا في التهم المنسوبة إليه.. أما الحالة التي تورط فيها "عمار" فهي حالة نقض قرار بعدم إخلاء سبيل مشتبه به في قضية شديدة الخطورة، وعليه فإن أي قاض يتخذ مثل هذه الخطوة في سوريا المحكومة بنظام الأسد، لا يمكن له أن يتخذها إلا وقد قبض ثمنها رشوة كبيرة، فضلا عن كونه "مطمئنا" إلى وجود "ظهر" يحميه.
وختم القاضي المنشق الذي عمل لسنوات في هذا المجال وخبر كواليسه: يجب أن لانغفل أن المقطع الذي سجله والد الطفل المدعي، وتم تناقله بكثافة في وسائل التواصل مرفقا بسيل من السخط العام، كان المحرك الرئيس الذي أجبر النظام على المسارعة إلى تطويق الملف، وليس المحرك عدل النظام ولا حبه لإحقاق الحقوق، فهناك في البلاد قضاة كثرا مثل "عمار" بل وأقل من "عمار" نفوذا، ما زالوا يتحكمون برقاب الناس، وما زالوا يمارسون فسادهم وسطوتهم، متماهين بشكل كامل مع بنية النظام القائمة على هذه القواعد، قواعد السطوة والفساد وقهر الضعفاء.

*خلف الستار
وما تزال تداعيات قضية الاعتداء على أطفال "كرتو" تتفاعل في معاقل النظام بالساحل، مسلطة الأضواء الكاشفة على القاضي المتهم بالتلاعب بالملف، والذي تقول معلوماتنا إن اسمه الكامل "سلام حسين عمار"، وإنه ابن محافظة طرطوس، إذ يتحدر من بلدة "برمانة المشايخ".

أما الأشخاص الخفيون في هذه القضية، والقابعون خلف الستار إن صح التعبير، فيتقدمهم المحامي "منتجب نديم عيوش"، الذي لـمّح إليه والد الطفل المعتدى عليه في مقطعه الأول، ثم أعاد التصريح باسمه أمام وزير العدل والمحامي العام، متهما إياه بالتورط في القضية، عبر مساومة الأب وعرض عقار يعادل ملايين الليرات مقابل أن يسقط حقه في القضية، لكن الأب رفض.

ويرتبط "عيوش" بعلاقة قوية مع عائلة المدعى عليه "زين العابدين عثمان"، وخاصة والده العقيد المتقاعد "يوسف عثمان"، ويرجح أن الأخير و"عيوش" لعبا دورا مؤثرا في حرف مسار القضية واستمالة "عمار" في سبيل أن يوقع على إخلاء سبيل المشتبه به، وهو ما حصل فعلا.

وليس ذلك فحسب، بل إن علاقة المحامي "عيوش" بالقاضي "عمار" مبنية على مصالح متداخلة، إلى الحد الذي دفع "عيوش" علنا لمدح "عمار" والدفاع عنه باعتباره مثالا لـ"الحق والعدل"، معتبرا أن الهجوم على "عمار" وفساده يشبه الهجوم على المسيح عليه السلام.

ولم يخجل "عيوش" من قول هذا الكلام في عز اشتعال نيران السخط الشعبي على "عمار"، كما لم يقم أي وزن لمشاعر أهالي الأطفال ولا أهالي "كرتو" عموما، التي هي قرية "عيوش" أيضا.

وفي هذه الأجواء من الإحساس بالغبن الشديد وغياب العدالة التي يمكن أن تحمي الأطفال، وتعاقب الجناة ومن يبرؤونهم.. ظهرت مطالبات جدية بحل الملف وتحديد المتهم من البريء عبر اللجوء إلى الشيخ "يوسف عفيف الدين" في قرية "ربعو" بريف حماة، والمعروف شعبيا بـ"الشيخ يوسف ربعو" أو "الشيخ أبو طاقة".

واللافت أن هذه الدعوات لاقت قبولا لدى فئة من الناس، وكان من بينهم المحامي "عيوش"، الذي يبدو أن له خبرة بهذا الأمر، حيث سبق أن ذهب في صيف 2016 ،كما تقول معلوماتنا، إلى مقام "الشيخ أبو طاقة" برفقة أحد المتهمين، واستطاع الأخير الخروج من الطاقة (دليل البراءة)، وكان "عيوش" أول المهنئين له لدى خروجه.

وحسب مقطع فيديو موثق بحوزة جريدتنا، فإن طقوس لجوء المتخاصمين إلى "أبو طاقة" تتمثل بدخول المتهم إلى "المقام" بعد تقبيل عتبته، ثم الوقوف أمام القبر المنسوب لـ"للشيخ" وهناك يقبل رخامه منحنيا ثم "يؤمن" على دعوات يرددها القائم على المقام (يدعى علي منصور)، قبل أن يقسم على براءته من التهم المنسوبة إليه، خاتما قسمه بعبارة: "وإذا كان كلامي ويميني يا ولي الله (يقصد يوسف بربعو) غير صحيح، فعاقبني"، و"عاقبني" هنا تعني أن تحشرني في وسط "الطاقة" فلا أستطيع الخروج منها، ما يكشف أني مذنب، حسب ما يرى المعتقدون بـ"الطاقة".

وتتراوح أبعاد الطاقة التي يفترض أن يمر من خلالها المتهم، رجلا أم امرأة، نحيلا أم بدينا، 32 سم x 23 سم، ومن يستطيع المرور منها ولو بمساعدة الآخرين وجذبهم له، فهو بريء بنظر الناس وبنظر الطرفين المتخاصمين.

واللافت أن "القضاء السوري" يأخذ بما يصدر عن "الطاقة" إن كان الطرفان المتخاصمان قد أقرا أمام هذا القضاء بقبولهما اللجوء إلى "الشيخ أبو الطاقة" والاحتكام إليه.

إيثار عبدالحق- زمان الوصل-خاص
(369)    هل أعجبتك المقالة (216)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي