في أول اتصال في صباح العيد يسأل السوري من بقي من أفراد عائلته: هل زرتم قبر أمي..أبي..أرسلوا لي صورة من المقبرة...وحدها تلك الصورة تكفي لتمرير كل ما في تلك البلاد من أعزاء وذكريات، وكل ما فيها من جمال لا يصلح إلا أن يكون سورياً.
من منفاه في السويد يتصل آخر ليهنأ أحبة لم يغادروا البلد، وحدها وسائل التواصل الحديثة هي اليد التي تلامس وجوه هؤلاء وأيديهم، وتفضح الدموع المتبادلة، والأحاديث الخائفة والأسئلة السريعة عن الحال والصحة والمعيشة، وأما ما جرى من دم فيبقى حبيس الأرواح التي وحدها تهمس بالحقيقة.
على الحدود السورية التركية يبدو الحال أقل سوءاً هناك يمكن للسوري أن يعيّد في إجازة سريعة إلى بلدته المهددة بالقصف أو القنص، ويجمع في روحه خزينة لغربة جديدة سيعيشها حتى موعد العيد القادم مع شعور يلازمه بأنه ربما يكون العيد الأخير.
في مدن العالم العربي بيروت والقاهرة وعمان والخرطوم يستنسخ السوريون عيدهم، ويمارسون طقوسه كما يشتهونها في موطنهم، وما يفتقدونه فقط قليل من الهواء والماء والأقارب والأصدقاء والجيران والمقابر...والوطن.
في أماكن شتى من العالم يمارس الوحيدون طقس التذكر والبكاء الصامت في يوم كان يعج بالأهل والأصدقاء ذات يوم مضى، وأما الآن فلا شيء سوى رسائل الجوال وفي أقصى ما يمكن مكالمة فيديو وانتهى الأضحى بمكالمة واحدة حتى مناسبة أخرى، ربما موت جديد أو خبر عن معتقل صار شهيداً.
بعض من أنعم الله عليهم سيجدون مدينة في وسط منافيهم ليلتقوا، وفي بيروت وحدها يمكن أن تلتقي بسوري مقيم بالداخل مع شقيقه وأمه المنفية، وفي استنبول يتوافد المقتدرون عليها ليمضوا بعض أيام الصيف والعيد مع أهلهم، وسسيافر آخر من الدانمارك إلى ألمانيا ليزور عائلته المقيمة هناك.. هي هكذا ابتعدت المسافات وصار العيد موعداً واحداً للقاء.
من مشرق الأرض إلى مغربها تمدد الشتات السوري، وكذلك العيد والمناسبات الصغيرة، والأنباء المفجعة والسعيدة، وربما باتت الصوت السوري وحده يتردد في فضاء الاتصالات، والملايين من البشر يتهامسون عن الأوطان الجديدة، واللجوء الأكثر راحة، والبلاد الأقرب إلى الله وتقاليد الشرق، وتلك التي تعج بفرص العمل فالسوري يحب العمل، وأما الكسالى منهم فيبحثون عن تلك البلاد التي تدفع أكثر.
وحدها صورة قبور الأهل ما بقي من قدسية المكان، وأما البيوت فرحلت وكذلك الشوارع قد هجرها أهلها وجاء سكان بوجوه جديدة، والأرزاق فهي بيد الله كما يؤمنون تلحق بهم أينما حلّوا...صورة قبر أبي وحدها وطن و.. وحدها عيد خالص من الحنين تنتظر بعض الماء وباقة آس لا تذبل.
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية