أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

الدراما.. فن التمرد على الواقع*

صورة تعبيرية - أرشيف

ليست الدراما -كما يعتقد الكثيرون- مرآة للواقع ولا انعكاسا له وإنما هي حالة تمرد على الواقع، ولكنّا اعتدنا المشي خلف ما يقوله النقاد دون مناقشة أفكارهم، فانسقنا مع مقولة إن الدراما بمختلف أنواعها إنما هي صدى للواقع المعاش من كل النواحي سواء السياسية أم الاجتماعية أم الفكرية والاقتصادية والثقافية.

حين يسطّر الكاتب سيناريو لفيلم سينمائي أو عمل تلفزيوني، فإنه في ذلك يعلن تمرده على الواقع برمته ورفضه لما هو قائم، وبهذا تكون العلاقة بين ما نراه على الشاشة وبين ما تراه على أرض الواقع هو نوع من العلاقة التحريضية التي لا ينبغي لها أن تفلت من نقاش المتلقي مع ذاته.

ما قلناه سابقا يجب أن ينطبق على مفهوم الدراما الصحيحة حسب وجهة نظرنا، وعليه فإن الأعمال الدرامية (سينما أو تلفزيون) والتي تستحق الحديث عنها هي ما يقع تحت العنوان العريض الموضوع لتعريف الدراما (حالة تمرد) وهي أعمال قليلة للغاية وتكاد تكون أقل من أصابع اليد الواحدة، ولكن في مقابل ذلك وتحت التعريف ذاته يمكن أن نقرأ الدراما العربية في السنوات الأخيرة بأنها حالة تماهي مع الواقع وليست حالة تمردية تستحق الوقوف عندها إلا من باب واحد وهو باب تقليد الواقع بحجة الأعمال الواقعية أو سينما الواقع أو دراما الواقع وحتى إن أخذنا جدلا بهذا الكلام فإننا لن نلمح الواقع بل نلمح تقليدا للواقع الموهوم ومماهاة لما هو غير حقيقي.

صحيح أن الدراما لا تنمو وتترعرع إلا في ظل واقع ما وهي في الحقيقة لا تأتي من الفراغ، إذ لا بد من بيئة واقعية مقنعة تكون الأرضية التي يفرش عليها الكاتب فكرته التحريضية وحالة الرفض التي تنتابه إزاء حدث ما، ولكن هذا لا يعني أن واقعية الفن هي ما تعطيه قيمته.

وأذكر هنا أن كثيرا من الكتاب المبتدئين يرسلون لي نماذج عن أعمالهم لاستمزاج الرأي ويذيلون رسائلهم بعبارة موحدة وكأنها شعار يجب أن يردده كل من يريد الخوض في مجال الدراما تلك العبارة السحرية بالنسبة لكتابنا الشباب (عمل واقعي) ولا شك أن كثيرا منهم ردد هذه العبارة في أحاديثه أو كتاباته للتعبير عن إعجابه بعمل ما شاهده مؤخرا ظنا أنه يمدح العمل، بل إن الأمر (للأسف) يتعدى حدود المتلقي العادي ليصل إلى مستويات النقاد وكتاباتهم النقدية.

إن مسألة الواقعية نسبية إلى حد كبير فرؤية كاتب منحاز للثورة السورية على سبيل المثال للواقع تختلف اختلافا جذريا مع رؤية كاتب مؤيد للنظام، وهذا لا ينطبق على حقل الدراما فقط، وإنما على كافة حقول المعرفة والوعي.

لكل رؤيته للواقع ولكل تحليله ومنطقه ومنطلقه الذاتي في إطلاق أحكامه على الواقع أما في حالة التمرد على الواقع، فإن تل الفوارق سوف تبدو أقل حدية وتأخذ شكلا منحنيا بعض الشيء، ولعلنا لاحظنا في الأعوام المنصرمة عددا من الأعمال الدرامية لكلا الفريقين لم تلاقِ النجاح المأمول بسبب أن كتابها كانوا يصرون على تقديم الواقع كما هو، متغافلين عن حقيقة هامة وهي أن الفن ليس نسخة عن الواقع، وإنما تعبيرا عن هذا الواقع هذا التعبير الذي يبلغ ذروة وعيه حين يكون حالة تمردية تعلن رفضها الواضح لما هو قائم بالفعل.

وحين تكون الدراما تمردا حقيقيا سوف تكون أقرب للمفهوم الثوري منه إلى المفهوم التصالحي مع القائم وتحمل في طياتها حلما بالتغيير وقدرة على التأثير في المتلقي.

كانت فرقة مسرحية في الاتحاد السوفيتي السابق تريد تقديم عروض للفلاحين في القرى والأرياف النائية، فسأل مديرها الأديب "أنطون تشيخوف" "بماذا تنصحنا؟ أي مسرحيات يمكن أن نقدمها للفلاحين؟"، فردّ "تشيخوف": "قدموا لهم أي شيء إلا الواقع".

*فؤاد حميرة - من كتاب "زمان الوصل"
(294)    هل أعجبتك المقالة (195)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي