ترد الكثير من الصور والأخبار عن طبيعة المصالحات التي جرت سواء في الجنوب السوري، أو في ريف دمشق وغيرها من المناطق، إذ تشير المعلومات إلى أن مقاتلين في فصائل الجيش الحر نقلوا البندقية إلى الكتف الآخر، كما تشير إلى أن مجموعات من المدنيين حملوا صور "بشار الأسد" وهتفوا له وهم الذين ذاقوا الأمرّين من آلته الحربية خلال سبع سنوات، كما أنهم ينتمون إلى حواضن الثورة الاجتماعية.
من الصعب أن يتفهم الكثيرون ـ وأنا منهم ـ أن يضع واحد من قادة أكبر الفصائل يده في يد قوات الفرقة الرابعة وقوات "سهيل الحسن"، وهو شقيق لثلاثة شهداء قتلتهم نفس الجهة التي يشترك معها اليوم في معارك كائنا من كان الخصم فيها.
تبدو صحيحة مقولة "عدوّ عدوي صديقي"، لكنها في التطبيق العملي لا يمكن أن تجعل من هذا العدو صديقاً، وهو قاتل أخي، وسارق بيتي، ومنتهك أعراض أبناء بلدي.
أجد نفسي مضطرا لتفسير وجود نكوص لدى تجمعات سكانية في الأرياف والقرى، باتت تعيش رهاب اغتصاب بناتها، وإعادة تدوير آلة القتل والاعتقال والتنكيل فيها، إذ تستنبط الناس الكوامن الخبيثة لكي تدرأ عن نفسها الموت، وكثير منّا قد يكذب طلبا للعيش والسكين تحزّ عنقه.
لقد ضغط الغرب والقوى الإقليمية لكي تقبل من تبقت من القوى الثورية الفاعلة في الجنوب بالمصالحة برعاية روسية، ويتضح أن خطّة التخميد في سوريا تحكمها تفاهمات دولية، منها السعي لإبعاد إيران عن إسرائيل، وترتيب كعكة إعادة الإعمار بحيث يعوض الروس بعض خسائرهم المادية بعد أن حققوا انتصارا سياسيا حسبما يرى المحللون.
السؤال الملح الآن، هل انتهت الثورة بترتيبات وتفاهمات بين الفصائل والروس، وهل ننتظر شيئا مماثلا في الشمال، إدلب وبعض أرياف حلب وحماة، وهل سيعود السوريون إلى حلقات الدبكة لآل الأسد.
أرى من المناسب استرجاع حالات من التاريخ، فالثورات لا تنتهي، وقد يجري إخمادها لتبقى جذوتها، كما أن السوريين عرفوا دربهم جيدا، وعرفوا طبيعة حاكمهم وأدواته، كما أن الدول الكبرى لم تضع أصابعها فقط بل أرجلها في الشأن السوري، وما التسريبات التي وردت عن "جميل الحسن" مدير إدارة المخابرات الجوية سوى جزء من معرفة السلطة بطبيعة التبدل الحاصل.
كما أننا حتى اليوم لا نعرف حقيقة ماذا نفعل بسجلات مئات الآلاف من الشهداء والمعتقلين، هل سنعلقها على جدران بيوتنا إلى جانب صورة السفاح، وهذا أمر مستحيل، أم أننا سنقف على حافة النهر وننتظر جثة عدونا، حسب الحكمة الصينية.
يحسن أن نتذكر من التاريخ تشاوشيسكو رومانيا، وفرانكو إسبانيا، وبيتان وروبسبير فرنسا، وهتلر ومحاكمات نورمبيرغ ألمانيا، وميلوسوفيتش يوغسلافيا، إذ لا يبدو ممكنا المراهنة على بقاء الأسد وحكمه من قبل الغرب، وهم أقرب لتحليل الواقع بطريقة علمية، كما أننا لا نستطيع أن نتخيل بشار الأسد يأكل "المليحي" في حوران، و"الكرزية" في إدلب، دون أن يخرج حتى طفل صاحب ثأر لأب أو أخ أو جد وهو يحمل سكينا أو رصاصة ينهي بها هذا الفصل الموجع، وأنا أتحدث هنا عن تحليلنا العاطفي في الشرق.
كثيرة هي "الضفادع" التي تخترق المجتمعات، وتاريخنا في سوريا شاهد على ذلك، فهناك دائما من يجرّ عربة المستعمر والقاتل، لكن، وهذه الـ "لكن" كبيرة وموجعة، هل سيقبل السوريون بجولة جديدة من حملة البنادق الذين يستسهلون نقلها على الكتفين، حتى وإن ساقوا من المبررات ما يعتقدون أنها جزء من التعامل مع الواقع حتى حين.
لقد أتت النار على كلّ الأخضر في سوريا، وهي تستكمل التهام اليابس، والغريب أنها بدأت بالأخضر قبل اليابس، وربما تفسير هذا أن كل إطفائيي الدول الكبرى والإقليم اشتغلوا على منع وصول الحريق إلى قصر "المهاجرين".
ربما تكفل الروس في إبعاد الأسد.. وتنصيب بديل مثل "قاديروف".. يكفي أن نقول إنه لا ضمانات، وإن القاتل سيقتل "ولو بعد حين".
*علي عيد - من كتاب"زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية