يعيش مئات آلاف السوريين في أوروبا، وألمانيا تحديدا، صيفا قاسيا للغاية، واستثنائيا في درجات حرارته، التي حولت البيوت والشوارع وحتى المتنزهات والحدائق وأطراف الأنهار إلى مناطق لايطيق الشخص المكوث فيها.
وباتت الشكوى من الصيف اللاهب حديث السوريين القاطنين في أوروبا، مع معارفهم وأقاربهم، سواء أولئك الساكنين في نفس "القارة العجوز"، أو المتوزعين في بلاد العرب أو القارات الأخرى، واختلطت تلك الأحاديث المتذمرة من "الشوب" بروح النكتة التي لايغادرها السوريون ولا تغادرهم حتى في أحلك الظروف.
فهذا سوري يعيش في ألمانيا يخاطب من بقي من أهله في سوريا، ليخبرهم أن يكفوا عن تخيله وهو يعيش في "الفي والمي"، فليس ثمة هنا إلا شمس حارقة تمتد ساعات شروقها في آب قرابة 16 ساعة، وذاك آخر يتهكم عن حاجة "هتلر" لبناء أفران الغاز، فيما ألمانيا تغلي على مرجل من حرارة يفوق تلك الأفران بعشرا آلاف الدرجات، وذاك سوري ثالث يكلم زميله الذي يمشي بقربه، ليعمله بعزمه على أن "يصيف" في الخليج السنة القادمة، لأن الألمان أنفسهم قد يفعلون ذلك، فيرد عليه محدثه النكتة بكلام جاد: ومن قال لك إن الخليج بكل صحاريه وشمسه الشهيرة ليس مناسبا للصيف، فعلى الأقل هناك (أي في الخليج) مكيفات في المنازل والمحال والمطاعم، تجعلك تنسى أمر "الشوب"، أما هنا (في ألمانيا) فيا حسرة، حتى المرواح غير متوفرة في البيوت، وعليك اليوم وأكثر من أي وقت مضى أن تكون محظوظا نوعا ما للحصول على مروحة، إذا سرعان ما تنفد المراوح من أي متجر فور أن يطرح عددا منها، فالناس في حاجة ماسة وغير مسبوقة لهواء حتى لو كان ساخنا، ومروحة واحدة لا تكفي غالبا، ولذلك يسعى بعض السوريين لاقتناء اثنتين.
الشمس التي فرضت سطوتها هذا الصيف على ألمانيا، أحرقت الأخضر واليابس، ليس مجازا بل بكل ما في الكلمة من معنى، ولم ينج من ذلك إلا نسبة قليلة من المناطق الألمانية، أما أغلب البلدات والمدن ابتداء من برلين فهامبورغ فدوسلدروف.. إلخ، فقد باتت جحيما لا يطاق، وتحولت المروج الخضراء إلى هشيم أصفر يابس تماما.
ففي "دوسلدورف" ثاني أكبر المدن الألمانية أهمية في مكانتها الصناعية والتجارية، لاتخطئ العين إطلاقا ما أحدثه الحر الشديد من تغيير في المشهد العام للمدينة، فالأعشاب التي تكسو المروج في الحدائق ومنصفات الشوارع وحتى بين سكك الترام، تحولت إلى عصف مأكول تحت تراب لو داس عليه الشخص لارتفع الغبار الذي يعد ظهوره أمرا شاذا للغاية في القارة المتخمة بالأنهار و البحيرات الأشجار.
وبمناسبة ذكر الأنهار، فحتى نهر "الراين" الذي يعد أحد أيقونات ألمانيا الطبيعية وملهما لكثير من الشعرا ءوالفنانين، ويجري في البلاد مئات الكيلومترات، ويعد بحرا صغيرا، لشدة اتساعه وغزارته و كونه ممرا ملاحيا حتى للسفن الضخمة جدا.. حتى هذا النهر يمكن لأي شخص عادي أن يلمس فور رؤيته، مدى تأثره بالحرارة وانحباس المطر، فقد انحسرت مياه النهر إلى مستويات منخفضة، وهبط بشكل لافت عن مستواه العادي، ناهيك عن مستواه القياسي، أما المروج المتاخمة له، فقد تحولت هي الأخرى إلى ما يشبه بستان قمح بعد حصده، إذا لا شيء سوى بقايا هشيم أصفر، على أرض "عفرة نفرة"، لم يسعفها قربها من النهر العظيم ولو شربة ماء ترطبها!
وبدرجة أقل ولكنها واضحة أيضا، فقدت أشجار المدينة نضارة خضرتها وتساقط كثير من ورقها متيسبا يكسو الطرقات، وكأن الصيف تواطأ مع الخريف على رئة الناس والمدينة (الأشجار).
وفي تفريعة من نهر الراين خصصت لتكون مرسى للقوارب واليخوت الصغيرة، وكانت متعة للناظرين سابقا، حين كانت لوحة فنية تعج بالألوان قوامها لون الماء الساحر والأشجار الناضرة، متداخلا مع ألوان وأشكال كثيرة من اليخوت... هذا المرسى البديع تحول اليوم مع الصيف الاستثنائي إلى مكان منفر، حيث غاضت مياهه، وصارت الفرصة موائمة أكثر لظهور حشود من الهوام، في مقدمتها البرغش، الذي يهاجمك جيوشا عندما تقترب من ضفة المرسى.
ويبدو أن الحر لم يكن كفيلا بتذويب الصورة النموذجية للطقس الأوروبي في أعين السوريين، ولكنه أيضا كشف عيوبا في المدن الألمانية وعموم المدن الأوربية الكبيرة، التي كان المطر يتكفل بشكل دوري ومستمر بغسلها من درنها، وباتت اليوم تستفيق لتقابل ساكنيها بوجه غير صبوح، حيث بدا تلوث الجو أوضح، وصار الشخص بحاجة إلى أن يأخذ قسطا من "دوش" مرتين أو حتى 3 مرات، وإلا فإنه لن يكون بمأمن من العوالق التي تتراكم على وجهه وجسمه، بسبب العرق وارتفاع التلوث.
حتى قطاع السياحة هنا ليس بمنأى، فنسبة جيدة من الفنادق والمطاعم المصنفة (تحمل النجوم) لا تحوي أي مكيفات، لأن هذه الفنادق والمطاعم مصممة على درجات حرارة معتدلة، لا تحتاج حتى لمروحة إلا أياما قليلة من الصيف، أما اليوم فقد باتت المروحة مجرد جهاز لنشر الهواء الساخن، وليس لتشغيله في بعض الأحيان سوى فائدة إيهام من يجلس أمامه أنه "يبرد" على نفسه.
وفي الخلاصة، فقد تحولت مدن أوروبية، كان سوريون كثر وما زالوا يتصورونها آية في لطافة الجو وربيعية أجوائه.. تحولت خلال هذا الصيف إلى مدن تتقلب فوق صفيح ساخن.. صفيح يتوقع حتى غير المختصين أن يصبح أسخن، لكثرة ما باتت تتردد على مسامعهم عبارة التغير المناخي، والتحذيرات من الكوارث والانقلابات التي يمكن أن يحدثها هذا التغير.
زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية