كانت مدينة داريا ومحافظة السويداء، عنوانين لمجزرتين جديتنين بحق الشعب السوري، وبحق الإنسانية. حيث قامت الأفرع الأمنية التابعة للنظام السوري، بالإفراج عن قائمة جديدة بأسماء ما يقارب الألف من معتقلي مدينة داريا، الذين قضوا تحت التعذيب، لينضموا إلى قائمة كبيرة من الشهداء تحت التعذيب على امتداد المدن السورية.
واستمرارًا لهذا "المسلخ البشري" الذي يرعاه النظام (بحسب وصف منظمة العفو الدولية)، فقد سهلت قوات النظام مؤخرًا لمجزرة أخرى في السويداء نفذها تنظيم "داعش" بإشراف النظام ورعايته، تسببت بأكثر من 250 شهيدًا ومئات الجرحى وعشرات المخطوفين.
إن هذه المجازر الجديدة، وتلك القديمة التي تتكشف، تأتي جميعها في سياق واحد، عنوانه الأبرز استكمال مشروع الإبادة الهمجي الذي تمارسه الطغمة الحاكمة بحق الشعب السوري، ردًا على ثورته للمطالبه بحقه في الحرية والكرامة، مدعومةً بأنظمة إرهابية على رأسها النظامان الروسي والإيراني.
أولًا: شهداء داريا، خلفيتهم وسلميتهم
في عام 2003، نظَّمت مجموعة من الشباب، في داريا، مشروعًا، يصبُّ في أعمال تنمية المجتمع المدني، مثل تنظيف الشوارع، والحث على مقاطعة التدخين، والسجائر الأميركية، ومكافحة الرشوة؛ فاعتقل على إثرها أربعة وعشرون شابًا، وتم استدعاء خمس عشرة فتاة من نساء داريا إلى فروع الأمن، وتمت محاكمة أحد عشر منهم أمام محكمة ميدانية سريَّة، ونالوا أحكامًا بين ثلاث وأربع سنوات. ولم يمنع تبني هؤلاء منهجية فكرية لا عنفية من ممارسة العنف عليهم، واعتقالهم ومحاكمتهم. وكان هذا النهج السلمي، ونبذ كل أشكال العنف، ناتجًا عن التأثُّر بمدرسة وفكر المفكر الإسلامي السوري "جودت سعيد"، الذي صاغ فكر الاعتدال واللاعنف في واحد من أهم مؤلفاته، صدر منتصف الستينيات، وحمل عنوان "مذهب ابن آدم أو مشكلة العنف في العمل الإسلامي"؛ حيث ناقش فيه علاقة العنف بالإسلام، عادًّا التوحيد مسألة سياسية اجتماعية، وليس مجرد قضية ماورائية.
استمر نهج مجموعة داريا السلمية بعد الثورة، ومنذ بداية الاحتجاجات، استخدمت لجنة تنسيق داريا استراتيجية اللاعنف، والمبادرات السلمية جدًا؛ حيث حملت الورود في جميع المظاهرات، وقدم الشباب قوارير المياه والورود للأمن والشبيحة الذين توافدوا لقمع التظاهرات، ووزعوا مناشير كُتب عليها عبارة: "كلنا سوريون، لماذا تقتلون"، وفي جمعة الوحدة الوطنية 17/7/2011، أصر إسلام الدباس، على تجاوز خط الفصل، وتقديم الورود -بشكل مباشر- للجنود وعناصر الأمن، وكان يهدف إلى تحقيق نوع من الالتقاء بالأعين بين الشباب، وبين من أتوا لقتلهم وقمعهم، اللقاء الذي يكسر الحواجز النفسية، ويتيح للآخر رؤية ما لا تتيحه الحجب التي تقيمها دعايات النظام، إنه أمر صعب التحقق؛ كون الأوامر تقضي -عادة- بإطلاق النار عن بعد، وعدم إحداث أي تماس مع المتظاهرين، إلا عن طريق السلاح. اختفى إسلام بين عناصر الأمن الذين اعتقلوه، هو والورود التي ذهب لتقديمها لهم، وورد اسمه ضمن إحدى قوائم الشهداء الذين قضوا تحت التعذيب التي أفرج النظام عنها مؤخرًا. كان الدباس ورفاقه سلميين معادين للعنف إلى درجة كبيرة؛ فهو نفسه من كتب المنشور الذي وُزِّع في سورية، وانتشر كثيرًا في داريا بشكل خاص: "أخي العسكري لماذا تقتلنا؟ تذكّر أنك أقسمت على حماية الشعب، وتذكر أنك حين تأتي لقتلنا -هنا- أن أهلك هناك يُقتلون على أيدي جنود آخرين، وطنيتك تأبى عليك أن تقتل إخوانك في الوطن، نحن نمد أيدينا إليك بالورود؛ فلا تقابلنا بالرصاص، ألم يحن الوقت لتبصر الحقيقة؟ آن الأوان ليصحو ضميرك". استشهد الدباس، واستشهد رفاقه، الصحافي محمد قريطم، وعبد الرحيم شربجي، تحت الأنقاض، وغياث مطر تحت التعذيب، ويأتي اسم يحيى شريجي، شهيدًا تحت التعذيب، وآخرون كثر من دعاة النشاط السلمي، وقُصفت داريا منذ ذلك اليوم بأكثر من ثمانية آلاف برميل متفجّر، وتم تهجير أهلها.
ترى هيئة العمل المشترك، في قائمة شهداء داريا دليلًا واضحًا لا لبس فيه، على ارتكاب النظام السوري جرائم ضد الإنسانية، يجب أن لا تمر من دون محاسبة. وتتم هذه الجرائم بدعمٍ عسكري واقتصادي وسياسي من حكومات روسيا وإيران وعلى مرأى ومسمع العالم الذي لم يحرك ساكنًا.
وإن هيئة العمل المشترك ترى أن إفلات الطغمة الحاكمة في سورية من المحاسبة يعني تهديدًا لمنظومة العدل الإنسانية برمتها، وتهديدًا للمكتسبات الإنسانية ومعايير العالم الإنساني المتحضر.
ثانيًا: مجزرة السويداء
كان تجاوب السويداء مع ثورة الحرية والكرامة مبكرًا جدًا، وخرجت أولى التظاهرات ضد النظام السوري في المحافظة بتاريخ 26/03/2011.
واستمرت هذه التظاهرات إلى أن اختفت مع اختفائها في أغلبية المناطق السورية نتيجة لتصاعد وتيرة العنف.
وأمام هذا العنف كان على أهل السويداء مواجهة لعبة طائفية قذرة يديرها النظام عبر أجهزته الأمنية، التي استخدمتها لإدارة العنف في المحافظة، ولإشعال الأزمات بين السويداء وجارتها درعا، واستغلال المغرر بهم من الأهالي ليكونوا وقودًا لحربٍ قذرة تنتمي لطرائق المسلخ البشري نفسه.
إن هيئة العمل المشترك، ترى أن المجزرة التي حدثت في محافظة السويداء بتاريخ 25 تموز/يوليو 2015، هي استمرارٌ لنهج الطغمة الحاكمة الإجرامي، وإننا ندين بشدة هذا النهج ونرى أنه يمثل جرائم ضد الإنسانية تستوجب الحساب.
ونطرح مقاربتنا للمسألة وفق النقاط التالية:
1-أداة المجزرة
قامت عناصر من تنظيم "داعش" الإرهابي المتمركزون في البادية إلى الشرق من محافظة السويداء، بتنفيذ هذه المجزرة، غدرًا، وبارتكاب أبشع اشكال القتل وذبح النساء والأطفال الآمنين المسالمين في بيوتهم. ويعرف الجميع أن النظام كان حريصًا على وجود هذه العناصر في البادية منذ عام 2015 على أقل تقدير. ثم عزز هذا الوجود بنقله لعناصر من "داعش" من مخيم اليرموك ومناطق أخرى بموجب اتفاق معها وبحمايته.
ولقد أفادت كافة الشهادات بأن نظام الطغمة الحاكمة كان قد سهَّل حدوث المجزرة التي أرادها باختيار تمركز داعش في هذا المكان، وذلك بسحب الأسلحة من القرى المستهدفة، وتهيئة الظروف اللوجستية لعناصر التنظيم ليقوموا بمجزرتهم.
2-توقيت المجزرة
لقد جهز النظام لتلك المجزرة في أواسط عام 2015 عندما أخلى ساحة السويداء بالطريقة نفسها التي أخلى بها تدمر قبيل تسليمها لـ"داعش" آنذاك، حيث سحب معداته العسكرية الثقيلة والمتوسطة من المحافظة، وأخرج الآثار الثمينة منها، ولا تُفهم هذه الخطوات في حينها إلا في سياق التسهيل للمجزرة القادمة من الشرق مع تنظيم داعش الإرهابي الذي كان فعلًا قد بدأ معاركه في السويداء من قرى القصر والحقف وبريكة، بالتزامن مع هذه التحركات. ولكن يبدو أن هدف النظام آنذاك قد تحقق عن طريق اغتياله لشيخ الكرامة وحيد البلعوس بتاريخ 4 ايلول/سبتمر عام 2015، والتي أدت إلى سقوط أكثر من خمسين شهيدًا. ما جعل المجزرة تتأجل ولكن أدراتها والنية بارتكابها ظلتا حاضرتين دومًا، ولخدمة أهداف أخرى يبدو اليوم أن وقتها قد حان.
3-أهداف المجزرة
يمكن رؤية المجموعة التالية من الأهداف والمكاسب التي تحققها المجزرة لنظام الطغمة:
1-إشعال الفتنة بين أهل السويداء واللاجئين الذين يسميهم اهل السويداء ضيوفًا، وذلك تجسد بوضوح عبر حملات شنتها جهات محسوبة على النظام ومقربة منه تتهم اللاجئين بالمجزرة وتحرّض على طردهم.
2-تخويف أهالي السويداء من شبح يسمى "إرهاب إسلامي سني"، يحثهم على القبول في الانخراط في معركة إدلب التي صرح رأس النظام انها معركته القادمة. وخصوصًا أن للسوريين في السويداء موقفًا واضحًا يقوم على رفض أداء الخدمة الإلزامية ورفض قتل السوريين، وقد فرضوا موقفهم هذا بالقوة بمساندة تجمع رجال الكرامة المسلح الذي كان يرأسه الشهيد وحيد البلعوس.
3-تهيئة المزاج العام في السويداء لتواجد إيراني أكبر، حيث تشكل السويداء موقعًا استراتيجيًا لإيران في الجنوب، يتناسب مع الشروط الإسرائيلية التي نقلها الروس خلال معركة درعا.
4-تهيئة الظروف للقيام بعملية ترحيل كامل لسكان المحافظة في أي وقت يرى النظام أن ذلك سيصب في خدمة مشاريعه أو مشاريع الأنظمة والميشيات التي تعمل معه.
4-طريقة تنفيذ المجزرة
يمكن وصف الذي حدث بأنه عملية من عمليات القتل تحت التعذيب الذي اعتاد عليها النظام، ولكنها على مستوى أكبر يوحي بأنه يتعامل مع المحافظة وكأنها سجن كبير اختار هذه المرة أن يكون "داعش" فيه السجان، مع الشبيحة التقليديين. فالمنهجية التي قتلت شباب داريا السلمي هي ذاتها التي استخدمت لقتل نساء واطفال وشيوخ قرى السويداء النائية البريئة.
5-خلل في الفهم
لقد تعاطف السوريون كعادتهم مع أهلهم في السويداء، تعاطفًا إنسانيًا عقلانيًا نابعا من إحساس معقلن بالانتماءٍ إلى الوطن. وكذلك صدرت على المستويين السياسي والحقوقي الكثير من بيانات الإدانة من قوى وأحزاب وتكتلات، ونعتقد أن البعض من هذه الصياغات قد حمل_بقصدٍ أو من دون قصد مغالطات في فهم السوريين وطبيعة الشعب السوري، وفي فهم مستقبل التعدد في سورية التي تحتضن الجميع. وتورد هيئة العمل المشترك بعض الأمثلة لما نرى أنها من جملة هذه المغالطات:
1-إن القول بأن هذه المجزرة "موجهة بالأساس لمحو الثقافة الدرزية" هو قول مغلوط وسطحي، وعنصري لا يرى في المسائل أبعد من الطائفة والعرق، ويتماهى مع أهداف الطغمة الحاكمة. فمن لا يرى أن الأساس في إدانة هذا النوع الجرائم هو أساس إنساني يحيل إلى الوطنية السورية وفق مبدأ الثورة "الشعب السوري واحد"، يكون لدية مشكلة جديّة على مستوى البنية الفكرية والسياسية مما يهدد مستقبله الشخصي ومن ثم مستقبل الوطن. لذلك من غير المستغرب أن يرى أصحاب هذا الخطاب أن الشعب السوري مكون من شعوب، ويتقدمون بالتعزية إلى شعب السويداء استنادًا إلى هذا الفهم.
2-العزاء لأقارب الشهداء، ولأهالي السويداء المكلومة جميعهم، وللسوريين، وللإنسانية المفجوعة بهذا النوع من الجرائم المستمرة في سورية. وبالتأكيد يوجد خللٌ في الفهم في توجيه التعزيات إلى المرجعيات الدينية في السويداء، واعتبارها ممثلًا للسوريين الذين يعيشون في السويداء، ومن ثم النظر إلى مواقف هذه المرجعيات السياسية وكأنها تمثل جميع سكان المحافظة.
ختامًا:
وإن هيئة العمل المشترك لحزب الجمهورية واللقاء الوطني الديمقراطي، تؤمن بقدرة السوريين على تجاوز أثار هذه السلوكيات الهمجية، وتؤمن بوعيهم وقدرتهم على مواجهة محاولة التفرقة السياسية وإشعال فتيل الحرب، فالطغمة الحاكمة هي الأقلية الوحيدة في سورية.
الرحمه لشهداء سورية، والشفاء للجرحى، والحرية للشعب السوري الواحد.
*الرئيس التنفيذي لحزب الجمهورية
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية