قد يبدو العنوان وكأنه مقال تحليلي للثورة السورية أو على الأقل رأي يقيم الثورة ومآلاتها ومكامن الخلل فيها، ولكنه في الحقيقة عنوان لإحدى المجموعات القصصية التي كتبها "عزيز نيسين" وصدرت في تركيا عام 1965، وفيها يكشف "نيسين" بأسلوبه الساخر المعروف عن الأساليب التي تعتمدها القوى السياسية سواء أكانت في السلطة أم في المعارضة لاستغلال طيبة الناس وسذاجتهم واستعدادهم لتصديق ما يصدر عن السياسيين، بل إنه أيضا يكشف سذاجة السياسيين أنفسهم وضعفهم الفكري حين يتعلق الأمر بالتصدي لمشكلات الشعب وفئاته الفقيرة المسحوقة، أما حين يتعلق الأمر بالتآمر على حقوق الناس ومطالبهم تنفجر عبقرية السياسيين وتظهر قدراتهم في استدراج العامة إلى المكان (الفخ)، الذي يريدون سوق الناس بكل أحلامهم الصغيرة وبكل قلوبهم وصدقهم للوقوع فيه.
كنت أعيد قراءة "نيسين" خلال اليومين الماضيين وتذكرت حادثة جرت معي خلال تواجدي في استنبول، حيث استقليت سيارة أجرة وكان السائق (يا للغرابة) يتحدث الإنكليزية بطلاقة وعرفت مع تقدمنا في الحديث أنه مدرس للغة الإنكليزية في إحدى الثانويات وتطرقنا في الكلام للحديث عن الأدب التركي فذكرت عشقي للكاتب "عزيز نيسين" وولهي بكل قصصه القصيرة ورواياته وقلت أنها تكشف الكثير من عيوب المجتمع التركي وخاصة في شقه السياسي، وافقني سائق السيارة مضيفا أنه مع ذلك لا يحب "نيسين" لأن "نيسين" ببساطة شيوعي، قلت له أن شيوعية "نيسين" ليست تهمة ثم إن هذا الأمر ليس مهما في نقاش نتاجه الأدبي، وأضفت بحماسة: ألم يكشف الرجل في رواياته وقصصه الكثير من ألاعيب السياسيين كاشفا في الوقت ذاته عن جهلهم وضحالة تفكيرهم؟ هز الرجل رأسه وقال نعم هذا صحيح وبرع "نيسين" حقيقة في تصوير ذلك مضيفا الكلمة ذاتها (ولكنه شيوعي).
بدأ الحنق يتسرب إلي فقلت: ولكنه كان يرعى دورا للأيتام، وتبنى تعليم آلاف الأطفال الفقراء وحين مات ترك مؤسسة ضخمة تعمل على رعاية الأطفال الأيتام، فأجاب السائق: نعم... ولكنه مات كافرا، مات شيوعيا. وكأن المهم هنا ليس ما قدمه "نيسين" من فكر صادق ومن أعمال خير، وإنما المهم في كونه مات شيوعيا. ابتسمت وقلت في نفسي: لو كان "نيسين" على قيد الحياة والتقاك صدفة لكنت بطلا لإحدى قصصه، وتذكرت أن كثيرا من جمهور الثورة ينطبق عليه نموذج صاحبنا مدرس اللغة الإنكليزية الذين يتمسكون بالقشور، يتمسكون بالشخصي على حساب الفكرة وإهمال أهميتها أو دراستها على الأقل.
نعود إلى مجموعة "نيسين" القصصية (كيف قمنا بالثورة) وأطرح على نفسي ذات السؤال كيف قمنا بالثورة فعلا ؟؟ هذا السؤال الذي يتهرب الكثيرون من الإجابة عليه إذ يصرون على إدخالك في تفاصيل تحليلات لا تقدم ولا تؤخر بل هي تزيد في ضياع المتلقي وحيرته وسط غابة من الأخبار والتعليقات والمقالات التحليلية المتناقضة والصادرة في الأصل عن مثقفين وقادة رأي يثق بهم جمهور الثورة.
كيف قمنا بالثورة؟ ألا يصلح نصر الحريري (على سبيل المثال لا الحصر) ليكون أحد أبطال رواية هزلية تحمل ذات العنوان، وتنتقد سذاجة قيادات المعارضة حين يحاولون نفخ أفكارهم ومطمطتها على قياس جهلهم؟ ألا يصلح أنس العبدة ليكون مثالا على قيادات مهترئة لأهم مؤسسات المعارضة ونعني بها الائتلاف؟ ألا يصلح مطلق شعار (تسقط موسكو ولا تسقط درعا)، هل تذكرون كيف صفقنا بحرارة لشجاعة الرجل وبطولته وكيف رددنا عبارته بكل ثقة وهيجان ثوري، لنفاجأ فيما بعد بأنه كان من أوائل الهاربين ليكون أحد الشخصيات الهزلية الهامة في مثل هكذا رواية ؟ لا أعرف حقيقة على من يجب أن نصب جام نقدنا، على السياسيين السذج أم على كهول الثورة الذي كان أكثر طيبة مما توقعنا.
إن أعمل أيا منا فكره قليلا في اختيار أبطال لرواية كوميدية تحمل ذات العنوان (كيف قمنا بالثورة) فإن الذاكرة سوف تمدنا بالكثير والكثير من الأسماء والشخصيات في صفوف المعارضة وقيادات الثورة، ممن أخذناهم على محمل الجد، في حين كانت الأمانة الثورية تقتضي النظر إليهم بعين السخرية والتعامل معهم كشخصيات كاريكاتورية في لوحة تنشرها الصحف الصفراء الهزلية.
قدم القادة السياسيون والعسكريون وجبة ضخمة متخمة بالحماس الفارغ، على طريقة قيادات حزب البعث، وأتحفونا بخطابات تكاد تكون نسخ ولصق من المنطلقات النظرية لحزب البعث، هي الحماسة ذاتها والخطاب الشعبوي ذاته واصطياد مشاعر العامة والتوق إلى نصر، أي نصر مهما كان ضعيفا وهزيلا، نصر نتكئ عليه لنضمد بعضا من جراح خيبتنا.
أعرف أن هذا الكلام لن يعجب البعض وربما يستشيط الغضب بالبعض الآخر، ولكن لنتوقف برهة مع الذات، لحظات فقط ونطرح السؤال (عنوان المجموعة القصصية) كيف قمنا بالثورة ؟ هل أعددنا العدة حقا؟ هل نضجت تجربتنا النضالية عبر ثماني سنين؟ هل لمس أحدكم أي تطور فكري عند أي من قيادات المعارضة؟ هل شعر أحدنا بتغير الخطاب السياسي رغم كل التغيرات التي طرأت على مسار الثورة ورغم كل التحولات في المواقف الداخلية والإقليمية والدولية؟
أعتذر إن كان كلامي صادما ولكني بمنتهى الصدق، لم أكن أريد غير إعمال العقل بعيدا عن العواطف (على أهميتها)، حين نفكر بضياع الكثير وحين نقدم على جردة حساب لكل ما جنته أيدينا وكل ما جنيناه على ثورة العدالة والمساواة.
*فؤاد حميرة - من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية