يطيب للباحث "جورج طرابيشي" أن يطلق على المعركة الدائرة حول التراث العربي مصطلح (المذبحة التراثية) وينتقد الكثير من الدراسات والأبحاث التي تناولت موضوع التراث، كما يقسم الباحثين الذين خاضوا غمار هذا الموضوع إلى أكثر من فئة، وذلك وفقا لإيديولوجياتهم وانتماءاتهم الفكرية والحزبية، فانقسمت الإيديولوجية التراثية إلى إيديولوجية يمينة وأخرى يسارية، فيقول إن الماركسيين ذهبوا في اتجاه الانتقائية واختيار ما يفيد الشعوب ونضالها في سبيل الاشتراكية والعدالة والمساواة وترك ما يوحي بالتخلف والعنصرية، أما الاتجاه اليميني، فقد حمل (ساطور) التقطيع، داعيا إلى استئصال كل ما لحق بالتراث العربي والإسلامي من رواسب ليست أصيلة، وهذه أيضا رؤية انتقائية للتاريخ والتراث وكل طرف يسعى إلى استحضار الأجزاء التراثية التي تدعم وجهة نظره وايديولوجيته، ويضرب طرابيشي الكثير من الأمثلة على النموذجين في كتابيه (المذبحة التراثية) و(المثقفون والتراث -التحليل النفسي لعصاب جماعي).
يقول طرابيشي:"إن العودة إلى الجذور همُّ طاغ في العديد من الثقافات العالمية المعاصرة ولا سيما منها تلك التي تعاني من أزمة هوية في خضم تصاعد مدّ المثاقفة".
ولكن رغم ذلك يعتقد طرابيشي أن "هذه الظاهرة تعرف في الثقافة العربية المعاصرة استفحالا مضاعفا"، ومردّ هذا الاستفحال في رأيه يعود إلى أسباب عدة أهمها أزمة الإيديولوجيات والنظريات وفشلها وانكشافها وهزيتها أمام المشروع الصهيوني ما خلق عند المثقف العربي ما أسماه بـ"الجرح النرجسي"، مضيفا أن غنى التراث العربي وتنوعه يشكل عاملا مهما آخر في المبالغة.
في المقلب الآخر يرى "عبد العزيز التويجري" أن أسباب الاهتمام العربي بالتراث أن هذا التراث "حي ومتصل بالتاريخ المطرد على مر الأزمنة"، ويؤكد التويجري على أن الاعتداد بالتراث والعناية به والمحافظة عليه "مسؤولية وواجب" باعتباره "عنوان الهوية"، ما يعني أن يصبح التراث ذاته هو الإيديولوجية في مفهوم إزاحي للفكر يجعل من التراث وجبتنا الفكرية الرئيسية، فيكون تراثا مؤدلجا بالكامل.
والتويجري ذاته إذ ينطلق في مفهومه هذا من منطلق الخوف على التراث والهوية الإسلامية في صراعها مع العولمة، ما يعني الاستغناء عن كل الأفكار المستوردة والاكتفاء بالتراث منهجا فكريا، فإنه يغفل عن تحديد التراث الذي يجب التمسك به واعتباره هوية، هل نأخذه كله على ما فيه من علات وهنات أما ننحو منحى الانتقائية التي انتقدها الطرابيشي وكثيرين غيره، علاوة على أن الانتقائية ستوقعنا في المطب الإيديولوجي ذاته بين يسار ويمين وكل يريد أن يغرف من هذا التراث ما يدعم أسلحته الفكرية ويقوي مكاته في الشارع، ما يعني أننا سنبقى ندور في الحلقة المفرغة ذاتها.
هنا سيقفز الطرابيشي بتراثه الفكري ليعلن أن هذه الإزاحة للفكر وأدلجة التراث ستجعل منه (التراث) تراثا خاليا من الحقيقة (إن التراث المؤدلج هو تراث بلا حقيقة تاريخية) ويصبح التراث والحالة هذه هو الحقيقة المطلقة (أي اللاتاريخية) وتقدم الدراسات التراثية عددا لا يحصى من الأمثلة على استخدام التراث كإيديولوجيا أو بعض أجزاء التراث، أي انتقائية قائمة أساسا على الإيديولوجيا.
إن الدعوات إلى التمسك بالتراث واعتباره ماضيا متصلا بالحاضر يجعل من هذا التراث دريئة يسهل التصويب عليها كما يجعل من السهل إسقاط الحقيقة عليه من خارجه.
استدعاء الحقائق من خارج التراث وإسقاطها على التراث يعتبر طعنا في التراث يسهل تفنيده، بل يجعل من التراث ذاته مرة أخرى مادة للتبرير، فالبعض يُسقط عليه أسباب تخلف الحاضر، كما يرى حسن حنفي والذي يعتبر الحاضر تراكما للماضي، وأن هذا الماضي هو سبب تخلفنا وشتاتنا وليس الواقع المعاصر (إن أزمة الحرية والديمقراطية في وجداننا المعاصر ليست بنت اليوم وليست وليد القوانين والدساتير والنظم والأحكام العرفية)، بل هي من موروثات (الرواسب الحضارية والتراكمات القيمية والأبنية النفسية التي ورثناها من القدماء).
هذا الفكر الذي يحمّل الماضي كل أخطاء الواقع يحمل في طياته تبريرا غريبا لعسف الأنظمة وجورها وديكتاتورية السلطات القائمة الآن ..الآن وليس في التراث، بناء السجون وقتل المعتقلين تحت التعذيب ليس امتدادا للماضي وإن حضرت شواهد ذلك في تراثنا، فكل تراث العالم يعرف أحداثا مشابهة وربما أكثر بشاعة، لم يكن قتل الخلفاء لإخوتهم وأقاربهم حكرا على التراث العربي، فالتراث الانكليزي على سبيل المثال يذكر شواهد كثيرة مشابهة.
في المقابل نجد مفكرا آخر يختلف مع هذه الفكرة، فالباحث جلال معوض يرى أن فشل الأنظمة العربية في توسيع المشاركة السياسية (يشكل نتوءا شاذا في التطور التاريخي لوطننا العربي الذي عاش في ظل الدولة الإسلامية الكبرى حتى نهاية العصر العباسي الأول صورة من أنقى صور المشاركة والديمقراطية في التاريخ الإنساني).
في الشاهدين السابقين دليل على أن مسألة التمسك بالتراث أو إزاحته لا يعدوان عن كونهما مواقف إيديولوجية، صراعا إيديولوجيا التراث ذاته بريء منه، فالماضي انتهى وما يحدث أن البعض يريد أن يسقط فكره على هذا الماضي ليستخلص منه ما يؤيد توجهه، ويثبت صحة موقفه، فالتراث والحالة هذه لن يكون بريئا مهما حاولنا، لأننا نلوثه بقراءتنا، ولكل موقفه ونظرته والإيديولوجية الخاصة التي ينطلق منها في إصدار حكمه على هذا التراث.
في اعتقادي أن ما يهم الآن هو التوقف عن نقد الماضي والتوجه نحو نقد أصيل وحقيقي وموضوعي لما هو واقع الآن ولو كانت مقولة إن الحاضر تراكم للماضي حقيقية وصحيحة لما تجاوزت أوروبا حربها العالمية الثانية بنتائجها الكارثية ونبذت تاريخها مركزة اهتمامها على الحاضر وبناء واقع صحيح بعيدا عن الغوص في مماحكات وصراعات الماضي الذي انطوى بلا رجعة.
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية