بالضبط...من سقطوا بالرصاص في أول هتافات الحرية ضد الطاغية كانوا أشرفنا وأطهرنا، وببساطة لأن هؤلاء لم يدخلوا في بازار النزاهة، ومن بعدهم كل من هبّ للدفاع عن عرضه وبيته فقط قبل أن تعلن فاتورة الدم.
لكل منا على ألأقل سبب واحد ليكون بين هؤلاء، وبنفس الوقت لكل منا مشروعه الصغير والوطني أيضاً، ولكل منا غضبه وأنانيته وطموحاته وثأره، ومنا من تم اقصاؤه من قبل أنصار النظام ليس لأنه على دين الثورة ولكن فقط لأنه ليس على دين النظام في وقت ممنوع فيه الصمت والحياد.
عندما بدأ عدّاد المال وفتنته لم يعد هناك من بد للاعتراف بأن الأهواء والمصالح والخونة والصغار صاروا الكتلة الأهم في جسد الناهضين نحو ما كانوا يرونه المستقبل، ومن أجل هذا حمل غياث مطر الورود فقتلوه، وأطلقوا النار على عين باسل شحادة الفنان الموهوب، وأبدلوا غناء الساروت ببندقية، وأيام الجمع بالغزوات، وأطلقوا سراح المتشددين ليقلبونا على قفانا، وتصير الورود ذقوناً، والهتافات تكبيرات نصر مخادع.
أصحاب الوظائف وموظفو المنظمات الشعبية ممن كانوا يحلمون بلقاء عضو في اتحاد الصناعات الغذائية، ويحضرون مؤتمراتهم ويصفقون كالعادة عند كل ذكر للأسد الكبير والصغير وذِكر البعث ومنطلقاته صاروا ثواراً، وابتعدوا في صلاحياتهم التي منحوها لأنفسهم في التخوين والشتائم والرفض لكل ما هو غيرهم، ولكل من كانوا يعتبرونه ضد أوهامهم الصغيرة، وهؤلاء كانوا مبتغى النظام في خروجهم...هؤلاء من يهتكون كل ستر، ومن ينهون كل حلم.
الصغار الحالمون حملوا بساطتهم ومضوا معتقدين ان بالصراخ والانتصارات المؤقتة يمكن سحق نظام متمرس في عمالته وألاعيبه، ومن ثم غرقوا في بحر اليأس والمال الذي لا يغني من جوع، وأما من اشتغلوا واستغلوا بساطتهم فيرسلون لهم فتات الدولار، والمصير البشع الذي نال الكثير من الناشطين فيما عمل مشغلوهم في السعي لأوطان جديدة وهجرات خلف البحار.
الحكومات الوهم التي توالت لحمل رايات البديل عن الأسد هي أيضاً صنيعة العرب المتخاصمين والغرب المتربص، وهؤلاء ثلة من السذج وموظفي القطاع العام الذي أداروا المال والمناطق المحررة بعقلية النظام بل أكثر رداءة، وأضاع بوصلتهم المال والجاه والفساد، وجاؤوا بأقاربهم وأصدقائهم المخترقين ليبنوا وطناً بعيداً.
أما نحن...لم نكن بمنأى من الخديعة والخيبة، والأبرياء والسذج منا تأخروا في فهم اللعبة، وصارت وطنيتنا تقاس بولاءات صغيرة جديدة، وأول ما يبادرك الرفاق القدامى في الوطن وأنت في غربتك الجديدة لماذا لم تخرج باكراً، وماذا كنت تفعل عند النظام، وهنا تحتار هل لهذا خرجت...لأجيب على الأسئلة التي تجعل منك بريئاً؟.
وبعد: اليوم يحافظ الصغار على مكتسباتهم، وآخرون يمجدون الأثرياء والأتقياء الجدد، والشلل الثورية والاعلامية والوطنية تضيق من جديد، ومن خارجها جمهور المنتظرين والمتفرجين على وطن يقل ويصغر ليصير شلة بائسة تروي حكاياتها هي لا حكايات الذين صنعوا صرخة استثنائية في لحظة أمل.
*ناصر علي - من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية