سؤال العنوان صعب، أجيب عنه بالطريقة التالية: أول زيارة لي إلى مدينة القنيطرة "المحررة" كانت قبل ربع قرن، وحدثت أثناء خدمتي الإلزامية حيث كلفتني الإدارة السياسية بكتابة موضوع عنها لمجلة "الجندي العربي" بذكرى رفع العلم السوري في "سمائها"، لم أستغرب حينها كتابة "شرطة مدنية" على السيارة العسكرية التي أقلتني إلى هناك، ولم أستغرب خلوّ المنطقة من القطع العسكرية والسلاح الثقيل على مسافة عشرات الكيلو مترات من المدينة، لكن ما أثار استغرابي هو مشاهدتي لجنود اسرائيليين وسلاح ثقيل على الطرف الثاني للشريط الشائك.
كَذَبَ حافظ الأسد على السوريين دائما، ومن جملة ما كذب أن أخبرهم بأن المنطقة المنزوعة السلاح التي اتفق على إقامتها عقب حرب تشرين "التحريرية" تشمل الطرفين، لكن الحقيقة لم تكن كذلك، وأن فيما بين الأوراق ما لم يعلنه وينص على أن يكون نزع السلاح من الجانب السوري فقط، أو ربما ضربت إسرائيل بالاتفاقية عرض الحائط، وأبقت سلاحها الثقيل في الجولان المحتل، وهذا مستبعد رغم أن إسرائيل اعتادت أن لا تلتفت للمقررات الدولية.
منذ بداية الثورة السورية اتضح أن إسرائيل لن تسمح بالإطاحة بـ"الحارس الأمين" على حدودها الشمالية، لا سيما وأن البديل المحتمل وقتذاك كان ثوارا أحرارا، يمكن للحمّية أن تضرب رؤوسهم ويفكرون في محاولة استرجاع الجولان هدية الأسد لها والتي قدمها مقابل حكمه وحكم أولاده من بعده.
كل ما فعله الأسد بسورية والسوريين كان بضوء أخضر أو مخططا إسرائيليا، ولم تدخل ميليشيات "حسن نصر الله" إلى "القصير" ومن بعدها بقية المناطق السورية، وما كان دخول الميليشيات الطائفية الإيرانية والأفغانية والعراقية إلا بموافقة إسرائيل التي تسعى لتثبيت الصبغة اليهودية على دولتها المقامة على الأراضي الفلسطينية، ولا شك أن تطييف الثورة السورية ما بين شيعي وسني يعطيها المبرر أمام العالم لإعلان يهودية دولتها.
كان كلام الأسد واضحا منذ بداية الثورة بأنه سينتصر ويسحق "الإرهابيين" وكانت ثقته نابعة من دعم لا محدود سياسيا من الغرب المتواطئ مع الرغبة الإسرائيلية بالحفاظ على كلب الحراسة، ودعم لا محدود عسكريا من قبل الميليشيات الطائفية المدعومة إيرانيا، ومن بعدها القوة الروسية التي وجدت في الرغبة الإسرائيلية والغياب الأمريكي فرصة سانحة للحلم السوفيتي القديم بالتمدد والسطوة بعد انكفاء قسري.
التسريبات تشير إلى أن الأسد كان على تواصل دائم مع إسرائيل، يشاورها أو يتلقى منها الأوامر فيما يخص تحركات جيشه لا سيما في المنطقة المحاذية لحدودها، وقد أغمضت الطرف عن دخول سلاحه الثقيل وطيرانه للمنطقة منزوعة السلاح لقصف الثوار، وآخر ما حرر في هذا الشأن أن بشار الأسد أرسل عشرات الرسائل لإسرائيل للتنسيق قبل بدء معركة درعا "حسب مصدر غربي".
ولم تبادر المعارضة السورية باتجاه إسرائيل رغم أنها تلقت الكثير من إشارات الرغبة بالتعامل معها وربما التنسيق من أجل الإطاحة بالأسد ضمن شروط أمنها وحماية حدودها عبر وسطاء غربيين، لأن من مصلحة إسرائيل عدم إلصاق تهمة حماية الأسد بها بعد كل ما ارتكب من جرائم بحق شعبه، ولعلها لا تزال في حالة بحث عن بديل يضمن ذات شروطها، وهذا ما لم تلتقطه المعارضة أو ترفضه، رغم أن بعض أفرادها اتصلوا بإسرائيل وزاروها، لكنهم على ما يبدو كانوا أقل شأنا وتأثيرا مما تريد فاستمرت حتى اللحظة بدعم بشار الأسد.
من الصعب تقدير حجم الربح والخسارة فيما لو توجهت المعارضة منذ البداية إلى إسرائيل وقدمت لها ما تريد من ضمانات وفق الشرعية الدولية مقابل التخلي عن حمايتها للأسد ونظامه، ولكن ليس محرّما التساؤل، أما كان وقف كل التدمير والتهجير والقتل يستحق مثل هذا التواصل، وفي الوقت عينه، هل كان لإسرائيل أن تتخلى عنه إذا ما ضمنت ما تريد ضمانته؟.
إسرائيل لم تتوان يوما عن فعل كل ما يضمن أمنها في الإقليم، ولو اقتضى ذلك حروبا وقصفا وتحالفات مع الإرهاب، وهي لا تلقي بالا للقانون الدولي ومجلس الأمن، وهذا ما يجعل إعراض المعارضة عن التفاعل معها فيه شيء من الصواب.
وها نحن اليوم نشهد "نتنياهو" رئيس وزرائها يتراجع عن تهديداته بعدم السماح لإيران بالتمدد في سوريا ولا سيما قريبا من حدود إسرائيل، لتشارك في حرب الأسد على درعا بشكل علني حينا ومتخفٍّ أحيانا تحت علم النظام أو عبر الهويات السورية بعدما منحهم الأسد جنسية بلده للاحتيال على إسرائيل إذا ما أصرت على منع الميليشيات من مشاركته معاركه.
المفاضلة ما بين عدو وعدو آخر لم تدرس جديّا، ولكن التاريخ يشهد بأن ما قتلتهم بشار الأسد من شعبه خلال سنة واحدة يفوق ما قتلته إسرائيل من الفلسطينيين والعرب على امتداد سبعين عاما.
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية