الدراما العربية وصناعة الكذب.. فؤاد حميرة*

يقول "جورج أورويل" في معرض رده على ديماغوجية السياسيين البريطانيين "إن اللغة السياسية مصممة لجعل الأكاذيب تبدو صادقة، لكي تضفي مظهر الحصافة على الهراء البحت".
ورغم أن مقولة "أورويل" تلك متخصصة في لغة السياسيين ورغم أن عمرها يتجاوز السبعين عاما، إلا أنها تنطبق على لغة الدراما العربية التي تعرضها الشاشات وتحرص المحطات الكبرى والأغنى على إنتاجها وعرضها.
لن نخوض في أمثلة هنا كي لا نتهم بالتهجم على محطة بعينها أو الانحياز لنجم تلفزيوني ما، لذا سيكون الحديث عن الدراما بشكل عام وكيف تدار وما المراد منها، خاصة وأن التلفزيون بات عند الكثيرين من أبناء المجتمعات العربية، مصدر المعلومات الأوسع انتشارا والأسهل استخداما وأرخصها تكلفة، فيعمد أصحاب الشأن الإعلامي إلى صناعة دراما أقل ما يقال فيها إنها تقدم صورة وهمية كاذبة بدعوى أنها تحلل الأحداث وتقيمها وتقدم صورتها الواضحة.
خلال أربعة أعوام كان الهدف الرئيسي للدراما العربية هو الحديث عن الإرهاب الداعشي والإسلام المتطرف وتصوير الإسلامي كمهووس بالقتل وحوريات الجنة وإن أراد الكاتب أن يبدو محايدا ونزيها، يكتب ضمن فكرة أن المتطرفين هم شبان تم التغرير بهم واستمالتهم للتطرف بالدعاية الدينية (المغرضة).
وكل ما أرجوه هنا ألا يفهم أحد بأني أدافع عن "داعش" أوعن الفكر الراديكالي أيا كان توجهه، وإنما أردت فقط تسليط بعض الضوء على الغاية من صناعة دراما الدواعش.
لن تشاهد مسلسلا يقول إن الظلم والفقر والقهر يولّدون التطرف وإن هذا التطرف يأتي من المناطق والنواحي التي تغيب فيها الدولة، ويغيب دورها في فرض القانون والرعاية الصحية والتأمين الاجتماعي وغياب سيادة القانون وطغيان الفلتان الأمني الأخلاقي، لن ترى كاتبا ينوه إلى دور انتشار البطالة والقهر والافتقاد إلى أدنى أنواع العدالة، من أهم الأسباب التي تؤدي إلى تكاثر التطرف والشبان الأكثر راديكالية.
جميع المسلسلات التي تناولت التطرف الإسلامي حاولت وبشكل متعمد ذر الرماد في العيون والتعمية على الحقائق الهامة وذات الصلة الحقيقية بالموضوع، فتارة تجد كاتبا يربط داعش بالاستخبارات العالمية، وعلى الرغم من أن جزءا من هذا الكلام صحيح، إلا أنه لا يقدم الحقيقة كاملة، بل يستند إلى جزء منها لتصنيع الكذبة الكبرى وهي أن للتطرف أسبابا تآمرية خارجية لا علاقة لها بالأوضاع الداخلية المزرية والمهينة التي تعيشها كل الشعوب العربية دون استثناء.
البعض الآخر يلعب دور الكاتب المثقف ويقدم أطروحته الدرامية بناء على ادعاء أنه أجرى بحوثا واستقصاءات تاريخية، فخرج بنتيجة مفادها أن التراث الإسلامي (المشوه) الذي وصلنا عبر مجموعة هائلة من المرويات الإسلامية هي المسؤولة عن هذا الانحراف (الشيطاني) الذي يغرر بعقول الشبان ويدفع بهم إلى عالم التطرف والإجرام، وهنا يطيب للكتاب وللمتابعين أيضا التندر على فكرة الحوريات في الجنة، وكيف أن المتطرف يفجر نفسه طمعا بنكاح سبعين حورية يعده بها الله، وبقضيب لا يلين..!
وتكثر هنا طبعا الشواهد التي يقدمها بعض رجال الدين المتخلفين والمتعاملين أصلا مع سلطات حكوماتهم الاستخباراتية والموظفين أصلا للقيام بمهمة مساندة إعلام الدولة والسلطة والتأكيد على أن الفكر المتطرف أصوله رجال الدين، والحقيقة أن رجال الدين ما هم إلا عملاء استخباراتيين لهم وظيفة محددة في دعم مقولة أجهزة الأمن القائلة بأن التطرف بسبب التآمر الخارجي وبسبب التراث الديني وبسبب تزوير رجال الدين لحقائق الدين.
الحقيقة تكمن بعيدا عن كل هذا الهراء الذي يراد منه أن يصبح حقيقة وقد أصبح للأسف، حقيقة التطرف داخلية ولها صلة وثيقة بالقهر والفساد والإقصاء وغياب العدالة والمساواة وازدياد حدة الفوارق الطبقية في المجتمع بين حفنة من الأغنياء تسرق وتملك كل شيء وعامة من الناس لا تجد قوت يومها إلا بشق الأنفس، التطرف سببه إسقاط دراسة العلاقة بين السارق والمسروق، بين الظالم والمقهور، بين المجرم والضحية.
لا أنكر دور الاستخبارات المحلية والإقليمية والدولية في صناعة التطرف، ولكن هذه الحقيقة هي أيضا جزء من الصورة وليست الصورة كاملة، هي جزء هامشي من الأسباب وليست الأسباب الرئيسية كلها.
بعض الحكومات العربية (الإسلامية) أعلنت عن تأسيس هيئة من علماء المسلمين لإعادة تصويب أخطاء ما ورد في كتب وتراث "البخاري" وغيره من الأئمة السابقين، وكأن مصيبتنا الحاضرة كان سببها "البخاري"، لا التلاعب بأموال الخزينة العامة ورميها بكل بساطة في خزائن الأميركيين والغرب، كأن مصيبة العرب فيما أخطأ "البخاري" بقوله، وليست فيما أخطا حاكم الزمان والمكان والشعوب وإهداره لحقوق الرعية واستهتاره بأموال الخزينة، مصيبتنا مع "البخاري" وليست مع من يدفع مئات المليارات من الدولارات لإنقاذ الغرب من الانهيار فيما خزائنه تعاني العجز والنقص.
هذا ما استطعت لملمته من بعض المسلسلات التي تناولت قضايا الإرهاب والتطرف، تعمية مقصودة، ونصوص مكتوبة إما بالأفرع الأمنية أو بتوجهات صارمة منها وأخرى مصاغة على مقاس ما تريده المحطات القادرة على الشراء والهدف في النهاية هو عقلك.
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية