في الفيلم الفرنسي المعنون بـ"الاسم الأول" الذي أنتج عام 2012 للمخرجين "ماتيو ديلابورت" وصاحب القصة المسرحية في الأصل "ألكسندر دي باتيلير"، تبدأ القصة عندما يفصح "فينسيت" لأصدقاء طفولته، ضمن جو عائلي فرنسي، في دعوة تجمعهم على العشاء، بأنه اختار اسماً لطلفه الذي سيولد خلال أسابيع قليلة، فيحاول أن يمازح أصدقاءه فيلتقط أول اسم تسقط عينه عليه في كتاب يتناوله بشكل عشوائي، فيكون الاسم هو " أدولف" ! لتتحول المزحة الى صراع ثقافي أخلاقي يشترك فيه الجميع، لعدم قدرتهم على تصديق الأمر، فالاسم بات محرّما أخلاقياً على ما يبدو، فيبدأ الموقف بالتداعي وينسحب على أمور أخرى أكثر خصوصية تفسد الجو العام للجلسة حتى بعد أن يكتشف الجميع بأنها مجرد مزحة غير محسوبة ..!
قديماً كان الناس يسمّون أبناءهم الذين يولدون في ظروف خاصّة، بشيء يوحي لهذا الظرف، أو يعاكسه، كأن يختار الفلاح الذي يعاني من القحط، لابنه اسماً مثل "خير، مطر، غيث"، أملاً بهطول الأمطار وتغير الأحوال. أو كأن يسمّي الفقير ابنه "فرج" سائلا ربّه الفرج على وجه مولوده الجديد، والمحزون يسمّي ابنته "فرح" على أن يرى الفرح مسحوباً بذيل ثوبها، والمقاتل يسمّي ابنه "نصر"، والسجين يسمي ابنته "أمل"، والغريب المهاجر يسمي ابنه "ديار"، أو يطلق اسم مدينته الأم على مولوده وهكذا .. كأن نلحظ مؤخراً الانتشار الواسع لاسم "شام" الذي يتكنى به الكثير من السوريين في المهجر، فإذا وقفت اليوم بساحة ما في برلين، وناديت على كنية " أبو شام" سيردّ الصوت عليك عشرةٌ في اليوم الموحش.
نجد في مجتمعنا السوري الكثير ممن قد سماهم أهليهم تيمناً بحافظ الأسد وابنه البكر باسل في وقت سابق، فيتكرر الأمر في عهد بشار الأسد، وذلك كلّه تقرباً وتزلّفاً لأصحاب السلطة، فبعد أن كثر تداول اسمي "باسل وحافظ"، نجد اليوم الكثير من اليافعين ممن يحملون اسم "بشار"، الأمر الذي كان أشبه بسمة لكل حقبة رئاسيّة، فنعرف مدة حكم الرئيس بشكل تقريبي من أعمار هؤلاء.
اليوم وبعد مرور سبعة أعوام على بدء الثورة السورية ضد نظام الحكم، وما آل إليه الأمر من نزاعات ظاهرة بكل أشكالها، يتخللها نزاع أخلاقي لا يبدو كثير الوضوح، إلا أنه يحفر عميقا في الوجدان وذاكرة الناس الهشة، عن كل ما تحمله الأسماء من دلالات، وما تحركه في النفس من ذكريات وواقع مؤلمين، عن الأشخاص الذين يحملون أسماءَ حافظ وبشار أتحدث هنا، فهؤلاء يحملون عبئاً مضاعفاً، ويحمّلون أهلهم جريرة الاسم الذي يحملون، ويلتاعون بين كرههم لصاحب الاسم الأصلي، وهويتهم الشخصية، التي ترتسم في أذهان من حولهم في كل مرة ينادونهم بها، أو يقابلونهم فيها لأول مرة، فيحمل الانطباع ثقلين حقيقيين، يتنازعان في نفس صاحب الاسم و المتلقي له، فلا يمكن الفصل بين واقع الاسم وحامله، فالدماغ لا يعمل على هذا النحو، وإنما يجمع كل الذكريات المرتبط برائحة الياسمين مثلا، في كل مرة تشتمّ فيها زهرة ياسمين، أو تتذوق طعاما شبيها بالطعام الذي تعدّه أمّك، أو تسمع موسيقى ارتبطت بطفولتك، وهكذا حال الأسماء، التي ترتبط أحيانا بالمكان، فنسأل الشخص، هل أنت من المدينة الفلانية، لأن اسم عائلته يذكرنا بأشخاص يتحدرون من منطقة معينة، ويرتبط الاسم أكثر، ليصير هوية دينية أو مذهبية، لما لبعض الأسماء من تداول ضمن مناطق، ومذاهب معينة أكثر من غيرها، هي نتائج إحصائية بسيطة يقوم بها العقل في أجزاء من الثانية معتمدا على الذاكرة، وهذه طريقة العقل البشري في الاستعادة وتحميل الأمور جوانب عدة، فيختل الانطباع الأول للشخص الذي تلتقيه ويحمل اسم "بشار" مثلا، بين لطف الشخص الذي أمامك، ومخزون الاسم الدموي في الذاكرة الحاضرة، مع اجتهادك في الحفاظ على كياسة التحية وحسن السلوك.
ولا ينجو الشخص حاملُ الاسم المردود الى زعيم ما، من محاكمة سريعة تضعه في نطاق معين في رأسك، تحتاج لوقت وعِشرة، حتى تبرّئه التجربة من الأحكام التي أطلقت عليه سلفاً. وهذا حال المسمّى بأحد تلك الأسماء من كلا الطرفين، فحتى لو كان من محبي ومؤيدي صاحب الاسم، فلن يسلم من تقييم ما، يحمله مسؤولية ما، يشوبها أمرٌ مهما كانت النظرة لصاحب الاسم الأصلي حميدة.
جيل كامل وُلِد في عَجفِ السنين السبع الماضية، منهم من ولد في مخيّمات وبات عمره ست سنوات، وهو لا يعرف غير الخيمة والطريق الترابية، وبشار الأسد الذي يقف وراء خيمته وفوق قبر أبيه. يحمل هؤلاء الأطفال الآلاف من الأسماء التي تنعكس من واقع أهليهم، حتى سمعنا بولادة "حريّة" الطفلة السورية التي يحلم أهلها بمستقبلٍ حر، وأسماء كثيرة لا يمكن حصرها، لكن من الأكيد أن ليس من بينها اسم بشار، أو من يدور في فلكه.
على الجانب الآخر، في فضاءات الأسد وأشياعه ومريديه، يزداد الاسم ظهوراً وتألقاُ، فيختاره الناس عن سابق إصرار وتصميم، بل أن بعضهم يذهب ليكون الاسم الأول لمولوده هو بشار الأسد، فلا يفلت من السامع أو تسقط الدلالة سهواً. فهل لو كان لذلك المولود خيار، أما كان ليرفض ذلك المستقبل الذي لن يعود لبشار الأسد، وجود فيه ليحمي ظهر سَميّه، مهما طال به الزمن؟! فمن المنطق أن يَردع مَآل الاسمِ وموروثه الشقي، ذلك الأب المتحمّس لقائده؟ فيالَ تعاسة حظ المواليد في بيئاتٍ مؤيّدة، أيّ جناية يجنيها أهلوهم عليهم!
والسؤال الأهم هل سيعود السوريون لاستخدام هذه الأسماء مستقبلاً وكأنّ برميلا لم يسقط، ولا أماً قد ثُكلت؟ وهل يجبّ الزمان خطايا من سبقوا، لتسقط الأحكام عن أصحابها بالتقادم؟
مرّت حوالي ثلاث وسبعين سنة، على انتهاء الحرب العالمية الثانية، واندثار أدولف هتلر والنازية القديمة الفاعلة، ولم يسقط حتى اللحظة مخزون الذاكرة من الألم، لاسمٍ حٌرّم على الجميع، من أحفاد القتلة والمقتولين، كدستور غير معلن، لأنّ معظم من طالهم الأذى ولو من بعيد، يدركون مآل هذ الاسم ولو أحبوه، إلا أنهم اختاروا أن يكونون شركاء معتدلين غير موسومين باسمٍ في أوطانهم، بعد أن أدركوا المعنى الحقيقي للمواطنة.
يحاول صديق "فينسيت" في الفيلم إقناعه بعدم تسمية ابنه "أدولف"، بعد أن استشاط غضباً، فيقول له: "هذا من المحرمات الأخلاقية، وأن أدولف لم يعد موجودا، لأن أدولف قد قتل أدولف! فألغى بذلك ذكره الى الأبد، وبأنك عندما تقول أدولف، لن يتذكر الناس الشاعر ولا العالم ولا الموسيقي، بل سيتذكرون أدولف هتلر المجرم النازي في كل مرة تنادي بها ابنك".
*سعد الربيع - صحفي سوري
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية