"عماد المقداد" فنان تشكيلي سوري شاعري النزعة، اعتاد على الهروب من أشكال القبح والجدل العقيم والفذلكات اللونية والبهلوانيات التقنية، والإبحار بعيداً عن لغط السوق ومضارباته، لينجز لوحات تتسم بالتلقائية والبساطة وسلاسة الفكرة محملة بأبعاد فلسفية وفكرية عميقة لاستقراء مفردات الحياة، وملامسة أطياف التفاعل بين الإنسان ومحيطه.
ولد المقداد الذي ينحدر من مدينة "بصرى الشام" في دمشق عام 1970 وفي السنة الأولى من عمره انتقل مع عائلته إلى الكويت، حيث كان والده يعمل هناك، ونشأ وسط أسرة محبة للعلم والفن، وتعلم في مدارس الكويت، وبعد أن بلغ العقد الثاني من عمره عاد إلى مسقط رأسه دمشق ليكمل دراسته واختار دراسة الكهرباء والإلكترون، وبدأ عمله فعليا بالرسم مع بداية التسعينات، ومع نهاية الألفين اضطر للتوقف عن السفر والعودة لدمشق ليضع حداً للغربة الطويلة، ولكنه عمل بعيداً عن الرسم لتأمين لقمة عيشه.
مرّت تجربة المقداد بعدة مراحل بدءا من مرحلة الطفولة والمدرسة وتعلم التشريح والمنظور والشغف بكل الأبعاد والتشكيلات الفنية مروراً بمرحلة تعلم الظل والتأثير وهي مرحلة الانتشار والطموح وثبات الموهبة، ومن ثم الانطلاق في فضاء المساحات الواسعة للجداريات الكبيرة والمسارح التي منحته، كما يروي لـ"زمان الوصل" حرية الحركة والطاقة والعطاء وخلط اللون وتعلم من خلالها التقنيات والإحساس باللون والبحث عن الذات لتأتي أخيراً مرحلة التركيز وثبات التحديات نحو عطاء من نوع جديد، حيث الاتجاه نحو اللوحة التشكيلية بأبعادها الفكرية والنفسية والثقافية ودراسة المدارس الحديثة.
مع بداية الحرب اتجه المقداد للتعبير عما يجري من خلال لوحاته المساندة للثورة في منطقته، ونظراً لظروف الحصار اضطر للنزوح داخل دمشق لمرات عدة ثم إلى مدينته "بصرى الشام" قبل أن يُجبر بعدها على اللجوء إلى الأردن ليعيش تجربة المخيم كغيره من ملايين السوريين، وأعادته هذه المرحلة الجديدة من حياته إلى الريشة والألوان من جديد، لإدراكه بأن قدر الإنسان يتبعه مجبراً، حسب تعبيره.
وروى محدثنا أن المرحلة اللاحقة المهمة من تجربته هي إنشاء المرسم الخاص بمساعدة بعض الأصدقاء والجيران، لافتاً إلى أن الحرب وظروف اللجوء أخرجا من داخله كل المكنونات الإبداعية إلى سطح الوجود، وفجرا ينابيع العطاء بلا حدود.
مع تراكم خبرته التكنيكية وتمثّله لمدارس تشكيلية متنوعة كان لا بد للمقداد من وضع بصمة خاصة تعكس ثقافته وخبراته، وبدأ يفكر -كما يقول- بكيفية طرح الثقافة العربية الإسلامية المعاصرة لمواكبتها الحدث السياسي وهموم الناس في بلدان اللجوء ومعالجة طمس الهوية الشامية التي ينتمي إليها، وإحلال هويات دخيلة مكانها نتيجة التغيير الديمغرافي الحاصل جرّاء التهجير القسري.
وأضاف أنه بدأ يفكر بكيفية التعبير عن هذه القضايا الخطيرة من خلال مدارس التشكيل الحديث والتجريد الطبقي وصولاً لابتكار حالة متطورة تعبر عن هذا الواقع وتكون قريبة من ثقافة عامة الناس وفهمهم.
طرق "المقداد" الذي يصفه أصدقاؤه ومعارفه بـ"الفنان الشامل" الكثير من الميادين الإبداعية الموسيقا والمقامات وآلة العود، وتداخلت حياته العملية بالاحتكاك بمختلف شرائح المجتمع، ما شكل تجربة ثرية له وخصوصاً أنه نشأ في أسرة دينية فجده لوالده كان عالماً وخطيباً معروفاً في دمشق، وفي هذا الإطار جاء توظيفه للأبعاد الروحية والفلسفية في لوحاته كلوحته الموسومة بـ"طبقات الأرض" التي "توزعت المساحات فيها بنسب ذهبية، وحققت مركزية التكوين الفني بشكل دائري"-كما يقول الناقد الأردني "عبد الرحيم جداية"- موضحاً أن "اللوحة تقوم بفلسفتها على جدلية علاقة الخط المستقيم والمنحني التي حققها الفنان المقداد بدرجة عالية من الإتقان". وأشار "المقداد" إلى أن لوحته هذه تنتمي تقنياً إلى المدارس الحداثية، وجاءت حصيلة دراسات متواصلة أجراها على التجريد الطبقي التكويني حيث الحالة الطبقية تحيط بنا من كل النواحي.
وحول المقولات التي يريد إيصالها دائماً إلى المتلقي عبر فضاء اللوحة أوضح الفنان المتحدّر من "بصرى الشام" أن هذه المقولات تتنوع بين إظهار القدرة على أداء تشكيل صرف يعتمد على أعلى حالة من التجانس والتناغم بين مختلف أنواع الكتل والأشكال والأحجام من ناحية الخطوط، مشيراً إلى أنه يسعى من الناحية اللونية إلى أعلى نسبة من التناغم اللوني سواء درجات اللون الواحد أو توزيع الألوان الحارة والباردة بنسب تعطي انطباعاً مريحاً لعين المتلقي".
وتبدو في لوحات "المقداد" منظومة حوار مع التراث السوري القديم بمختلف عناصره ومعطياته ومخزوناته الجمالية وحول ما يمكن أن تقدمه هذه التجربة في زمن النهم الاستهلاكي واللاجدوى أبان "المقداد" أن "هذه التجربة يمكن أن تقدم طرحاً إبداعياً بعيداً عن الاستهلاك والطوباوية وتتناول ملامح الأطياف التفاعلية بين الإنسان ومحيطه".
وتابع الفنان الأربعيني أن تطور هذه العلاقة التكاملية تحفز الإنسان على إعادة صياغة أحلامه والتفكير في استنباط اللمحة الجمالية البريئة في ماضيه وإعادة صياغة حاضره، معتمداً عليها بالعودة لمفردات ذلك الزمن، لافتاً إلى أنه أقام بالفعل معرضاَ تراثياً بمدينة التراث "السلط" يصب في هذا الاتجاه قدم فيه الأزياء التراثية والحارة والبيئة التراثية بمختلف أزمانها، إلى جانب الخطوط العربية القديمة كالخط النيسابوري وغيره، ولاقى المعرض صدى مميزاً كما يقول.
وأكد الفنان "المقداد" أن "عصب نجاح أي فنان هو قيمة قدرته على الاستمرارية في الخلق والابتكار"، وهذا يشكل -حسب قوله- حالة مضادة لما هو مألوف وعادي لدى الناس، فيخرج بذلك عن الرتابة والروتين.
وأردف أن "الاستمرارية تحتاج تنوعاً ثقافياً قريباً من أحوال عامة المجتمع، ويعتمد التنوع الثقافي لدى الفنان على خبرته وحصيلته العمرية، وقوة تجربته، سواء الثقافة الفنية أو السيكولوجيا الاجتماعية أو السياسية أو الدينية".
زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية