أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

"قصر البنات" في الرقة من "بستان في السلم" إلى "حصن في الحرب"

يُعد "قصر البنات" أحد أهم القصور التي أقامها العباسيون في الرقة

"بستان في السلم وحصن في الحرب" هكذا وصف مؤرخون وعلماء آثار "قصر البنات" الذي يقع جنوب شرق مدينة الرقة، ولكن القصر الذي أقام فيه الخليفة العباسي "هارون الرشيد" لمدة 12عاماً أصبح الآن رمزاً للحرب ونهباً للإهمال، بعد أن تجاذبت السيطرة عليه العديد من القوى، من قوات النظام إلى تنظيم "الدولة" وصولاً إلى ميليشيات "قوات سوريا الديموقراطية" التي انتزعته من سيطرة التنظيم في الرابع من تموز /يوليو العام الماضي.

تبوأت مدينة الرقة دوراً استراتيجياً وتجارياً مهماً عبر التاريخ كجسر متقدم على حدود العالم القديم وأصبحت في ما بعد مركزاً مهماً من المراكز الحضارية العربية الإسلامية في أوج انتشار دولة الإسلام، وفي أنحاء مختلفة من هذه المدينة وما حولها بنى العباسيون الكثير من القصور، وأدت التنقيبات الأثرية المحلية إلى اكتشاف خمسة من هذه القصور التي تدل على مدى الأهمية التي أولاها الخلفاء العباسيون لبناء القصور ومدى الترف والبذخ في البناء، إذ أرادوا لهذه القصور ألاّ تقل عظمة عن القصور الفارسية الساسانية.

ولم تقدم التنقيبات الأثرية دليلاً قاطعاً على اسم الخليفة الذي شيد هذه القصور ما جعل من الصعب إطلاق اي اسم عليها لذا اصطُلح على تسميتها A-B-C-D والقصر المركزي.

وعلى رغم انتقال عاصمة الخلافة من دمشق إلى الكوفة ومن بعدها إلى بغداد، فإن العباسيين، وإن أهملوا العناية بدمشق، فإنهم لم يهملوا بناء المدن والقصور في أرجاء عدة من سوريا، ولقد انطلقوا في ذلك -كما يقول الباحث الدكتور "عبد المعطي الخضر"- في كتابه "تاريخ العمارة- العمارة في العصور الوسطى" من خلال واقع جغرافي استراتيجي يسمح لهم بمجابهة الخطر البيزنطي على الحدود الشمالية للدولة الإسلامية، واقتصادي يسمح بأن يحصلوا على خيرات الجزيرة العربية وبلاد الشام بواسطة الطريقين البري والنهري نهر الفرات. 


ويُعد "قصر البنات" أو "قصر العذارى" أحد أهم القصور التي أقامها العباسيون في الرقة ويبعد القصر نحو 400 م إلى الشمال من باب بغداد، وليس لتسمية هذا البناء بقصر البنات أي مصدر تاريخي، ويبدو أن هذه التسمية محلية.

وتحدّث ابن رشد عن وجود مدرستين واحدة حنفية والأخرى شافعية وبيمارستان بناه نور الدين الزنكي ما زالت آثاره موجودة داخل القصر.

وأسفرت أعمال الكشف التي جرت بين عامي 1977 و1982 عن إظهار معالم هذه المنشأة الضخمة.

ويغلب على طابع بناء قصر البنات، كغيره من آثار بلاد الجزيرة والفرات، استخدام اللبن الطيني المجفف بالشمس والجص والخشب، ويُعتقد أن الرشيد كان قد هدم أجزاء كبيرة منه وأعاد بناءه بالآجر شأنه في ذلك شأن جميع المنشآت العمرانية التي تعود إلى زمن المنصور في بغداد والبصرة والكوفة التي أعاد الرشيد بناءها بالآجر من جديد.

وكان "آرنست هرتسفيلد" درس الموقع عام 1907 واقترح تاريخاً له يعود الى القرون الوسطى بناء على وجود زخارف معمارية غنية ترقى إلى ذلك العصر، وجاءت لقى المكتشفات الحديثة لتدعم هذا التأريخ وتعيد هذه اللقى إلى النصف الثاني من القرن السادس الهجري - الثاني عشر الميلادي.

يتألف قصر البنات في الوسط من ساحة مربعة الشكل طول ضلعها نحو 100م ولها أبراج عند الزوايا مربعة الشكل ذات أواوين محورية موجهة نحو الخارج. ولا يوجد إلى جانب هذه الأواوين التي كانت تستخدم بكل جلاء لأغراض الاستقبال والتشريفات أي غرف أخرى لا بد منها للمعيشة.

وللقصر سياج على شكل دائرة كاملة بقطر 500 م وطرق عبر بوابات البناء تقع على المحور الرئيس ما يوحي أن للبناء وظيفة معتبرة أي على جانب كبير من الأهمية.


واللافت للنظر هو التشابه مع قصور مدينة بغداد ذات الشكل الدائري. وكان هذا القصر كغيره من القصور المكتشفة في الرقة محاطاً بالأسوار ذات الأبراج العالية تكتنفه الحدائق الغنّاء، وكانت تستخدم كحصون وقلاع زمن الحرب ومتنزهات ومواطن سلوى زمن السلم، ثم أخذ التهديم طريقه إليها منذ القرن الرابع فعاد معظمها مزارع وبساتين كما آل إليه الوضع قبل سنوات الحرب.

وكان "قصر البنات" يضم قاعة للعرش مغطاة بقبة مسبوقة بإيوان مخصص للزوار العاديين وقاعة للعرش تحوز أهمية كبرى بالنسبة إلى القصر.

ويقول الباحث الأثري "ميخائيل ماينكه" الذي شارك في حفريات منطقة القصور العباسية في الرقة بين 1982-1983 في دراسة له بعنوان "الرقة على الفرات - الحفريات الراهنة في عاصمة هارون الرشيد" نُشرت في مجلة "عاديات حلب" الكتاب الثامن والتاسع 1998 "ومما لا ريب فيه أن قصر البنات- حسب التسمية المحلية - كان يعني رمزاً للقوة المتعاظمة، وعندما يكون الخليفة موجوداً فيه كان يستخدم الأواوين للاستقبال والتشريفات.

وقد أصبح هذا المكان قطب العالم، هذه المكانة المرموقة كانت تحتلها سابقاً مدينة بغداد التي أسسها الخليفة المنصور" -حسب ماينكه- وبناء عليه فإن الهدف من إقامة هذا المبنى هو أن يكون مقر إقامة للخليفة وهارون الرشيد هو الخليفة العباسي الوحيد الذي أقام في الرقة (الرافقة) مدة اثنتي عشر سنة، ولم يفكر بالعودة إلى بغداد حتى توفاه الله عام 193هـ/809م أثناء حملته على خراسان في شرقي إيران، وبعد عودة الخلافة إلى بغداد بعد 12 عاماً استُخدم هذا القصر كغيره من قصور العباسيين في الرقة منتجعاً صيفياً موقتاً. ويستدل على ذلك من بعض النقود التي عُثر عليها في أرض القصر وأعادها المنقبون إلى عهد خلفاء هارون الرشيد.

زمان الوصل
(461)    هل أعجبتك المقالة (593)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي