من نافلة القول، التعريف بالشيء قبل الحديث عنه، لذلك أجد لزاما هنا أن نبدأ بتعريف المثقف لغة، ففي المعاجم العربية شبه إجماع على أن كلمة مثقف مشتقة من فعل (ثقف) بمعنى سوّى وقوّم، وكانت العرب تقول ثقف الرمح بمعنى قوّمه وسوّى اعوجاجه، غير أن تعريف المثقف اصطلاحا، أمر محفوف بالمزالق والمطبات، إذ تتعدد مفاهيم الباحثين والدارسين وحتى الموسوعات الفكرية حول المقصهود بلفظة مثقف، ففي اللغة الإنكليزية تعني العامل في الأفكار سواء إنتاجا (مفكر، باحث أديب، شاعر ...إلخ) أم استهلاكا بمعنى (القارئ) ولقد عمم اليساريون مفهوم المثقف حتى بات يشمل بالنسبة لهم جميع المهن المختصة بالحقل الفكري ولا تتطلب مجهودا عضليا، وبذلك تضيع الملامح بين المثقف وبين أصحاب مهن اختصاصية كالطب والهندسة والمحاماة..إلخ.
لن نخصص الحيز الأكبر هنا لتعريف المفهوم، وإنما أردت فقط أن يكون مدخلا للموضوع الذي نريد الخوض فيه، ألا وهو المثقف الأقلوي المعارض لنظام الاستبداد، وكلمة أقلوي هنا لا أقصد بها التقليل من مكانة المثقف، وإنما للدلالة على انتمائه الطائفي أو القومي والذي في الغالب ما يكون انتماء بفعل التكاثر والولادة، أي انتماء فيزيولوجيا صرفا لا انتماء عقائديا وفكريا، علما أن "إدوارد سعيد" يرى أن الانتماء لإيديولوجيا معينة أو حزب أو طائفة أو قومية أو حضارة، لا يُسقط صفة الثقافة عن الشخص المقصود، فالأهم وفقا لسعيد في كتابه "المثقف والسلطة" هو الفكر الذي ينتجه المثقف واهتماماته الإنسانية لا الطوائف والايديولوجيات والقوميات التي جاء منها.
ولكن البعض يرى في الانتماء لأقلية ما، خاصرة رخوة يسهل طعن المثقف الأقلوي من خلالها وكيل سيول الاتهامات ضده لمجرد أنه عبّر عن وجهة نظر مخالفة للسائد، والمخالفة هي صفة دائمة في المثقف كما يقول "إدوارد سعيد"، فلا ينبغي على المثقف أن يكون متوافقا مع المجتمع ورغباته، وهذا أمر منطقي لكل فكرة إبداعية وتاريخنا الحديث زاخر بالأمثلة الدالّة على رفض كل ما هو مخالف للسائد الذي تعود عليه الناس، وكما يقول (تارد) فإن من شأن العادة أن تقتل الرغبة في تقبل الجديد، بل إن العادة أحيانا تكون سلاحا فتاكا لمحاربة كل بادرة لكسر المألوف.
دعونا نقفز للموضوع مباشرة، فنقول: يحق للمثقف السنّي المعارض أن ينتقد الثورة وأن يقدم وجهات نظره حول الأخطاء والهفوات التي وقعت وتقع فيها الثورة والمعارضة عبر المراحل المختلفة، أما إن تجرأ مثقف أقلوي على توجيه نقد خارج صندوق قناعات العامة، تنهال عليه الاتهامات من كل حدب وصوب، ويصل الأمر حدّ الشتائم المقززة.
حين كنا نعقد المؤتمر التأسيسي لتيار "غد سوريا" في اسطنبول، وهو كما تعرفون تيار معارض يحاول جمع شتات العلويين المعارضين وتوحيد كلمتهم وجهدهم، في تلك الفترة سمعت كلاما من قيادات في الائتلاف والمعارضة، يدل على ثقة مطلقة بما نقوم به، بل وسمعت نصائح عديدة يمكن تلخيصها في الفكرة التالية: (نحن نعرفك جيدا ونثق بك ثقة عمياء، توجه لطائفتك...حاول أن تنجح مع أبناء طائفتك).
ولكني ما إن أطلقت أول تصريح لي بعد المؤتمر التأسيسي وقلت فيه (إن 80 بالمائة من العلويين هم ضد آل الأسد) حتى باتت هذه المقولة خنجرا يطعنني به كل من هب ودب، وكان من بينهم إعلاميون معروفون، وكل ما قصدته من تلك الجملة هو محاولة التقرب من أبناء طائفتي وإقناعهم بعدم الخوف من الثورة وتفنيد ادعاءات النظام بأنها ثورة طائفية، غير أن النتائج جاءت عكسية بسبب الهجوم الذي لا أراه مبررا حتى اللحظة واعتمدت فيه على ما سمعته من قيادات المعارضة وتحريضها لي على عدم الاستماع للناس، وإنما التركيز على كسب أبناء الطائفة، ولكن لم يصدر عن أي منهم كلاما أو تصريحا يشرح أو يدافع.
أسوق هذا المثال عن نفسي وأترك غيري من أبناء الأقليات للحديث عن تجربتهم، كما أني أذكر الواقعة لأقول إنه ليس بالضرورة أن أقول ما تريد سماعه بل ما يجب عليك سماعه، وما أرى أنه من واجبي أن أقوله لك، إن مسايرة العامة، مسايرة الواقع المعتاد يعني قتل الإبداع، ودفن كل فكرة جديدة في الصدور، وأعتقد أنه صار لزاما على الجميع التعامل مع أي فكرة جديدة على أنها جديدة، لا على أنها مؤامرة على معتقداته وأفكاره، حربا ضد ما اعتاد الاقتناع به، أي إنها ببساطة خلخلة لأفكاره المسبقة الصنع، وضياعا ربما لهويته.
كان والد "فريدريك أنجلز" أحد أهم صناعيي القماش في إنكلترا، أي أن "أنجلز" ربيب أسرة إنكليزية ثرية وارستقراطية، غير أن ذلك لم يمنعه من الإيمان بالفكر الشيوعي (الاشتراكي)، وأفنى عمره مع صديقه ومعلمه "كارل ماركس" في بناء الفكرة الماركسية والأممية العالمية، ما يعني أن الانتماء الطبقي لا يحدد بالضرورة موقفك من أي صراع كان، وكذلك الحال مع الانتماء الطائفي أو القومي، فانتماء فرد ما لأقلية طائفية أو قومية لا يحتم بالضرورة موقفه من الثورة.
كونك سنيا منتميا للثورة ومؤيدا لها لا يعني أبدا أنك تملك الحق في إسكات الآخرين بحجة أنهم أبناء أقليات وخائفون على طوائفهم، ولا يعني أبدا أن لا حق لمثقف أقلوي أن ينتقد الثورة بل ويبكي بحرقة على المآلات التي وصلت إليها ثورتنا وكوني أقدم فكرة جديدة لا تعني أن تشهر سيف قناعاتك المعلبة وتبدأ تشريحا وذبحا بصاب الفكرة، وجه نقدك للفكرة ذاتها، ناقش الفكرة ذاتها.
المثقف الأقلوي مرفوض بين أبناء طائفته، ولقد قلت مرارا على شبكات التواصل الاجتماعي وبنكهة ساخر مرة (ماذا تتوقعون مصيري لو وقعت بيد أبناء قريتي)؟ هذه ثورتنا جميعا، وللجميع الحق في الإسهام بإعادة بنائها على أسس صحيحة ولا تضعوا تكهنات مسبقة لما قد يصدر عن أي مثقف أقلوي أو أكثري، فمن صفات المثقف أنك لا تستطيع أن تتكهن ما قد يقوم به وعلى الجميع قراءة الأفكار الجديدة بعيدا عن أي جمود عقائدي أو مذهب فكري ثابت.
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية