هي ليست صحوتي المتأخرة كما قد يعتقد البعض، فأنا ما زلت مصاباً بلعنة تغيير السائد السوري المتقيّح، والذي أوصلنا إلى ما نحن فيه من تشرد وتشرذم وضياع ذات ومصير.
أما ما أعنيه هنا فهو كومة الهلام التي ابتلينا بها من أفراد ومؤسسات سياسية وإعلامية وإغاثية أثبتت بعد سنوات الدم الطويلة أنها ساهمت في إراقته وبيعه بمزاد الدولار والتمويل الدولي والإقليمي صاحب الأجندات الطائفية والقومية.
بداية من حكومات مؤقتة تتابعت على إدارة واقع السوريين المهجّرين والمحاصرين، ولم تستطع أن تفعل لهم شيئاً سوى التسول بأوضاعهم المأساوية، وإيصال مساعدات لا تمنع برداً، و ا تعالج مريضا، ومن ثم تتكشف المصائب عن سرقات بملايين الدولارات، ومشاريع خلّبية لبعض أعضائها المقيمين بدول مختلفة، ومن أبرز مشاريع إحدى الحكومات جوازات سفر كانت وبالاً لمن منحتهم إياها واعتقلوا حتى في البلدان التي تدعمهم، وهذه صرف عليها الملايين من الدولارات ودفع السوريين مقابل الحصول عليها مدخراتهم.
نفس الحكومة (أحمد طعمة) تركت وراءها مبالغ ومستحقات لصحفيين عملوا في مكتبها الإعلامي في عينتاب التركية بعشرات آلاف الدولارات في حين كانت تمنح ناشطين ومحسوبين عليها -ممن يطبلون ولا علاقة لهم بالإعلام من قريب أو بعيد– رواتب خرافية أنفقوها في المطاعم والسفر والفنادق ثم غادروا إلى أوروبا لاجئين يشتمون بلادهم ومعارضتها.
على شاكلة هؤلاء حوت مدن الجنوب التركي وكالات إعلامية ومراكز بحثية ومواقع إلكترونية تناوبت على إدارتها نفس الوجوه الغريبة، وبعضها تم إغلاقه بقرارات إما تركية أو بإيقاف الدعم بعد أن بدد المال الضخم على مجرد مصاريف وهمية، وتم كالعادة تشغيل الناشطين والجهلة برواتب قليلة، ونهب الكم الكبير لجيوب أصحاب المشاريع التي دعمت لإنجاز تقارير فيديو عن أوضاع السوريين، والتعريف بمشاريع الدعم الطبي والإغاثي والثقافي في بلد كان الحصار يأكل أجساد السوريين ويفتك المرض والأوبئة بأطفاله.
من بين المشاريع أيضاً صحف مدعومة من جهات متناقضة، ويديرها صحفيون ليس لهم باع في المهنة وطارئون عليها كانوا من أوائل الخارجين تحت مسمى الثورة وتعسّف النظام، واستحوذوا على مال الدعم، وأسسوا مجموعات صغيرة (شلل) تعمل في أكثر من مؤسسة دفعة واحدة كيلا يخرج المال من بين أيديها، وهؤلاء يعرفون من أين تؤكل كتف التمويل فوحدهم يستحوذون على التمويلات السنوية التي تجدد فقط لقدرتهم على خلق مشاريع فاشلة، وأما عن المضمون والمحتوى فلا تتجاوز مواد باهتة ومقالات رأي تمدح دول التمويل، وبعض المنتجات التي تطبع عليها أسماء المؤسسات كالجوارب والكنزات الشتوية التي ترسل إلى الداخل السوري المنهك.
الأكثر ضرراً كان في أداء هذه المؤسسات التي قدمت الوجه القبيح لثورة السوريين عندما بدأت تعمل تحت وصاية الفصائل المتطرفة وداخل محمياتها، وبعضها كان مختصاً في نقل خطاب النصرة وقادتها وتلميع ذقونها على أنها تمثل السوريين ومعركتهم، وباتت عبارات هؤلاء المقاتلين في الحرب شعارات لتلك المؤسسات، وأما من يقوم بالتصوير والنقل فهم مجموعة المراسلين أنفسهم التي تتقاضى أجوراً زهيدة لا تساوي حجم الخطر الذي يتعرضون له في تغطيتهم للمعارك، ويرسلون مقاطعهم المصورة إلى أكثر من مؤسسة إعلامية (ثورية).
أغلب هؤلاء الناشطين الذين تحولوا إلى إعلاميين بالصدفة هربوا من مناطق النزاع التي سيطر عليها النظام إما إلى إدلب أو تركيا وهم إما بلا عمل الآن أو في مهب أي عمل يمكّنهم من الحياة الصعبة التي لم يكن ليدركوها من الداخل.
الإعلاميون المحترفون الذي خرجوا من البلاد كان نصيبهم التهميش أو العمل مع هؤلاء المدراء الجدد وبمهام إدارية فخرية، ولكن أغلبهم عانوا من التهميش واختاروا أوروبا البعيدة التي لا تسمح لهم بالعمل، وصاحب الحظ منهم وجد فسحة لمقال رأي أو مادة سريعة لا تكاد تسد رمقاً.
المخيف في وجهة النظر بين كل هؤلاء..ناشطون ومحترفون، الطرف الأول يرى في المحترفين جبناء غادروا البلاد بينما هم تعرضوا للموت وتصدوا لقصف الطائرات ورافقوا المقاتلين في الجبهات وهم الأولى بالعمل، والطرف الثاني ينظر إلى الناشطين على أنهم أساؤوا للثورة في حين كان يعتقدون أنهم يخدمونها.
أحد الناشطين العاملين في مؤسسة ثورية مغمورة سألته في أول لقاء ماذا تعمل في المؤسسة..أجابني بثقة كبيرة أكتب مواد رأي وأحياناً أخبارا وتحقيقات...سألته كم عمرك؟؟ أجاب 25 سنة ولكن كما تعلم أن سبع سنوات من الثورة تعلّم من لا يعلم.
هي لعنة الثورة التي يعتبرها من يرونها دابتهم القصيرة ميزة وتشريفاً، وأنها تمنحهم حق الوصاية على كل السوريين، وأنهم مقدسون وفوق الشبهات، وأن من حق أن يستحوذوا على مالها وعقلها وصوتها؟.
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية