كان تفكيك الطائفة، السبيل الذي اعتمده حافظ الأسد لإعلان نفسه سيدا أوحد للطائفة، وذلك عبر التخلص من أهم خصومه ضمن الطائفة ذاتها، ونذكر مصير ضباط كبار أمثال محمد عمران وصلاح جديد وعزت جديد وغيرهم، وبوصول الأسد إلى السلطة كان أول علوي في التاريخ يحكم بلدا، ومع ذلك فإن صراعه مع خصومه لم ينتهِ بشكل نهائي، وخاصة جمهور صلاح جديد، وما زلت أذكر حتى الآن تلك النقاشات الحامية التي كانت تجري في بيتنا بين مؤيدي الأسد ومؤيدي جديد وكثيرا ما كانت هذه النقاشات تنتهي باشتباكات يدوية دامية، وحتى في المدرسة الثانوية، كان النقاش محتدما بين الطلاب العلويين حول الأسد وجديد، وذلك بالرغم من مرور 14 عاما على وصول الأسد إلى السلطة.
لكن عامل الزمن كان يسير في صالح الأسد الذي أثبت قوته في الحكم ونجح في التخلص من جميع خصومه، وعزز موقعه وموقع الطائفة، ومع حسم الصراع الذي نشب مع الإخوان المسلمين في عدد من المدن السورية كحماة وحمص ودير الزور وحلب، لصالح السلطة، ظهر الأسد ليس كممثل لمصالح الطائفة وإنما حاميا لها (من المحيط الني الذي غدا أكثر عدائية الآن بعيد مجازر حماة)، ما أسهم في رص صفوف الطائفة تحت قيادة آل الأسد اصطفافهم الأعمى أكثر فأكثر خلف قيادته.
لكن الطائفة و/ أو الطائفية وحدها ليست كافية لتثبيت دعائم الحكم الاستبدادي وترسيخ الأسد كديكتاتور مطلق الصلاحيات، فقد قلنا في المقال السابق إن الأسد اعتمد سياسة التأقلم مع التطورات الداخلية والإقليمية والدولية، حيث نجح الأسد في تجاوز صدمة انهيار حليفه الأساسي الاتحاد السوفييتي وباقي المنظومة الاشتراكية فخفّ تدخل السلطة في الحياة الاقتصادية نوعا ما، واعتمدت البلاد نهج اقتصاد السوق نزولا عند الضغوطات الدولية والإقليمية، كما استطاع نظام الأسد في تجاوز أخطاء تدخله العسكري في لبنان والقفز فوق هزائم الجيش في حرب لبنان إبان الاشتباكات التي تواجه فيها الجيش السوري مع الجيش الإسرائيلي وخاصة تدمير منظومة صواريخ الدفاع الجوي السورية كاملة، إضافة إلى خسارة نحو 27 ألف جندي بين قتيل وجريح خلال فترة الحرب الأهلية اللبنانية والصراعات التي زج فيها الأسد بجيشه.
انتقل النظام من شكل اشتراكي (مفترض) إلى نهج اقتصادي مغاير تماما، ولكن لم ينتج عن هذا التحول أي تغير في العمل السياسي الداخلي وفي موضوعات هامة كحقوق الإنسان وحرية الأحزاب والعمل السياسي، بل إن سطوة النظام ازدادت قسوة وشهدت البلاد عددا من عمليات الاعتقال الواسعة وخاصة بين صفوف الشيوعيين وباقي القوى اليسارية.
بحلول العام 2000 كان حافظ الأسد قد أنجز كامل مهمته في تمهيد المسرح لتسلم ابنه بشار الحكم من بعده، عبر إبعاد الضباط الكبار الذين قد يشكلون تهديدا لحكم الابن مثل علي حيدر وابراهيم الصافي وعلي أصلان وغيرهم من الضباط الكبار الذين شكلوا الخيمة الحامية للنظام على مدار عقود.
كما ترك الأسد لابنه بلدا ذا علاقات جيدة مع معظم دول العالم وخاصة الدول العربية كالسعودية ودول الخليج ومصر، وعلاقات دولية متينة مع كل من فرنسا والولايات المتحدة وأكثر من دولة غربية، والأهم من ذلك، ترك له حليفا استراتيجيا وقويا هو إيران التي عقدت تحالفا قويا لا يمكن فصله، فتسلم بشار الأسد برتقالة مقشرة وجاهزة للأكل.
وفي الداخل كانت المعارضة في حالة يرثى لها بل إن المعارضة كانت غير موجودة أصلا في ظل القمع الذي شهدته البلاد منذ وصول الأسد الأب إلى السلطة وقتل الحياة السياسية والالتفاف على حرية الأحزاب عبر تجمع هزيل لأحزاب شبه منقرضة انضوت تحت لواء الجبهة الوطنية التقدمية والتي لم تكن في يوم من الأيام لا جبهة ولا وطنية ولا تقدمية.
منذ استلام بشار للسلطة عبر تغيير سريع للدستور نفذه مجلس شعب مهزوم مكون من عدد من الجهلة تحت اسم ممثلين عن العمال والفلاحين، معظمهم شبه أمي، ومن تحالف لكبار التجار والمستثمرين وأصحاب رؤوس الاموال، صرح الأسد بأن (حافظ الأسد ما زال يحكم سوريا من قبره) وهذه المقولة رسالة إلى الجميع في الداخل والخارج مفادها استمرار سياسة القمع واستمرار التحالفات الإقليمية التي كانت في أيام والده وخاصة مع الحلف الإيراني، تحت مسمى المقاومة والممانعة.
وعلى صعيد الطائفة ارتكب بشار خطأ فادحا في نظر مؤيديه، تجلى في زواجه من امرأة جاءت من خارج الطائفة العلوية، ولم يكن هذا الأمر عاديا في الحقيقة ولقد كنت شاهدا على عدد من النقاشات والانتقادات بين من يرى أن الأسد بدأ يتخلى عن طائفته وأن نسله لن يكون علويا صرفا وبين من يرى في هذه الحركة (على علاتها ومساوئها وفقا لوجهة نظرهم) حركة سياسية ذكية من الأسد يكسب من خلالها رضى السنة وودهم عبر مصاهرتهم، ولكن في كلا الحالتين لم يكن معظم أبناء الطائفة راضين عن هذا الزواج، اللهم إلا فئة من العلمانيين الذين لا يكترثون لمثل هذه المسائل فالأهم عندهم هو الرجل، فهو الذي يمنح الدين لأبنائه لا المرأة، وما أهمية أن تكون الزوجة سنية أو غير ذلك؟؟ (نموذج من العلمانية العلوية).
لا بد أن نذكر في هذا السياق أنه بعد اندلاع الثورة السورية بأشهر خرج أبناء طرطوس في مظاهرة رددوا فيها شعار (بشار للعيادة وماهر للقيادة) علما أن ماهر متزوج من مرأة سنية أيضا، ولأنه بدا في نظرهم رجل عسكري حقيقي قادر على هزيمة المشروع الهادف إلى إزاحتهم عن السلطة ويمتلك من القسوة العسكرية ما يمنحه القدرة على السحق أكثر من أخيه، ولا يخفى أن مثل هذا الموقف لا بد وأن يترك آثاره في نفسية الرئيس الشاب الذي فوجئ بالصورة وفوجئ أكثر في اتساع رقعتها وشمولها جميع المدن السورية.
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية