قلنا في العدد السابق إن العلويين يشكلون طائفة متماسكة جغرافيا عبر تمركزهم في منطقة الساحل السوري وجبالها، وتاريخيا أيضا، حيث لا تذكر المصادر أي صراعات كبرى داخل صفوفها، لكن وصول ضباط من أبناء الطائفة إلى مناصب عليا وحساسة في المؤسسة العسكرية، فتح المجال في ظهور بوادر الانشقاق والتصدع بين صفوف أبناء الطائفة وعشائرها وخاصة بعد نجاح الثنائي حافظ الأسد وصلاح جديد في التخلص من منافسهما الأقوى ضمن الطائفة وضمن الجيش محمد عمران الذي كان يشغل منصب وزير الدفاع، مع ما يعني ذلك من ازدياد حدة تمركز الصراع وارتفاعه بين حليفي الأمس وأعداء اليوم ونقصد بهما جديد والأسد. وقد نجح الأخير في حسم الصراع لصالحه عبر سيطرته على المؤسسة العسكرية كونه شغل منصب وزير الدفاع، فيما كان جديد قد تقدم باستقالته من مناصبه العسكرية متفرغا للعمل المدني في الحزب.
أمر الأسد باعتقال كل أنصار جديد في فرع الحزب باللاذقية ومن ضمنهم المحافظ الذي تم اعتقاله وإحضاره إلى دمشق مع عدد كبير من البعثيين الموالين لجديد، وهنا كانت حركة صلاح جديد الطائشة وفق رأيي الشخصي، حيث دعا إلى مؤتمر قطري طارئ كان من أهم أهدافه فصل حافظ الأسد من الحزب، وهذا ما كان يدركه الأسد ويخطط لرد مناسب ومؤلم فتقدم باستقالته من القيادة القطرية وقام بالتعاون مع مصطفى طلاس باعتقال المشاركين في المؤتمر، وأرسل عساكره للسيطرة على الشعب الحزبية، ما يعني أن الأسد قام بخطوته الأهم على صعيد تحقيق حلمه في الوصول إلى سدة الحكم، باعتقال منافسيه وخصومه السياسيين، وكذلك بإبعاد خصومه العسكريين عن محيط العاصمة وتسليمهم مناصب عسكرية في مناطق كحلب ودير الزور، ما يعني أن الأسد كان متهيئا لتلك الخطوة ويعد لها بشكل جيد ومدروس بالتعاون مع حليفه في الجيش مصطفى طلاس.
سيطر الأسد على مؤسسات الحزب عسكريا ومدنيا، وبقي أن يسيطر على الطائفة التي كانت مقسومة المواقف بينه وبين محمد عمران وصلاح جديد، ولأن الأسد يعلم أن ولاء الطائفة يميل أكثر نحو جديد ذي الميول الاشتراكية التي تناسب الوضع الطبقي للطائفة، فكان لا يميل للثقة بأبناء طائفته ما دفعه للاعتماد على عائلته وأبناء عشيرته في الدرجة الأولى ولا أدلّ على ذلك من أن خمسة من إخوته كانوا أعضاء بارزين في الجيش والحزب ويأتي في مقدمتهم أخوه رفعت الذي تسلم مهمة تأسيس "سرايا الدفاع" ورئاستها، لتكون جناحا عسكريا مستقلا عن الجيش يدعم سلطة آل الأسد ويقوض أركان معارضيهم، وكذلك شغل أخوه الآخر جميل مناصب عليا في الحزب وأسس فيما بعد جمعية المرتضى التي كان لها في وقت من الأوقات جناح مسلح مدني سري لا تختلف أهدافه عن الأهداف التي تم رسمها لسرايا الدفاع.
وصل العلويون إلى قمة السلطة السياسية والعسكرية في البلاد، والسؤال الذي يطرح نفسه بداهة هنا، كيف نجح الأسد في تثبيت سلطته وسلطة الطائفة، فيما فشل الآخرون في تحقيق ذلك رغم أن بعضهم اعتمد على أبناء جلدته أيضا؟
لا يكمن السبب في الطائفة وحدها، فلقد قلنا إن الأسد اعتمد على تفكيكها لتعزيز حضوره وسطوته ولقد قام باعتقال أو نفي زعاماتها التقليدية سياسيا وعسكريا وتعيين أقاربه وأبناء عشيرته في المناصب الحساسة بالجيش والدولة، وهنا يأتي دور العامل الذاتي، بمعنى التفكير الذي تمتع به حافظ الأسد والخبرات التي استطاع الاستفادة منها خلال الصراعات التي شهدتها البلاد، لقد قرأ الأسد كل الماضي القريب وكان مساهما في كتابة بعض سطوره، ولكنه لم يمر على تلك الأحداث مرورا خفيفا، وإنما درس كل خطوة بعناية وتدقيق وبعينيّ وفكر شخص طامع في الوصول إلى ما لم يستطعه أحد عبر تاريخ الطائفة.
شهدت البلاد منذ استقلالها عن فرنسا، سلسلة من الانقلابات العسكرية والصراعات التي أنهكتها وأنهكت مؤسساتها، إذ لا يمكن الحديث عن مؤسسات في دولة تشهد انقلابا كل خمسين يوم تقريبا، أو تشهد صراعات عسكرية في فترات زمنية متقاربة، لذلك نجد أن الأسد سعى بشكل دؤوب إلى تثبيت مؤسسات الدولة، إذ لا يمكن لحكم أن ينجح دون الاعتماد على مؤسسات، هذه المؤسسات التي كانت موجودة أصلا وتملك تقاليدها الخاصة، ولكنها لم تجد متنفسا للتعبير عن مكانتها بسبب الصراعات التي كانت تعيق عمل المؤسسات بل وتلغيه في كثير من الأحيان.
والحديث عن المؤسسات ودورها في تثبيت حكم الأسد، ودور الأسد في تنشيطها والاعتماد عليها يحتاج لدراسات وافية وأكثر عمقا.
الأمر الآخر الذي أسهم في تثبيت الأسد، هو قدرته على التلون والتكيف مع الظروف الإقليمية والدولية، وكما أشرنا في مقال سابق، فإن الأسد أعلن قبل وصوله إلى السلطة، أنه يقود داخل الحزب تيارا قوميا، يُغلّب العمل القومي المشترك على فكرة تأسيس المجتمع الاشتراكي، ولقد كان هذا الإعلان بمثابة رسالة طمأنة إلى الدول العربية، خاصة تلك التي كان يعتبرها جناح صلاح جديد دولا رجعية، وعلى رأسها السعودية، من هنا يذكر التاريخ أن المملكة العربية السعودية كانت من أولى الدول التي أعلنت تأييدها للانقلاب الذي قاده الأسد ودعمته بكل الوسائل المتاحة، كما عمل الأسد على فتح علاقاته مع القاهرة وتعزيز تلك العلاقات تحت مظلة العمل العربي المشترك، وهنا لا بد أن نذكر بأن الأسد استفاد من خبرات من سبقوه، أي أنه لم يرم كل التاريخ في سلة المهملات، ففكرة العمل على مثلث عربي تشكل دمشق والرياض والقاهرة أضلاعه الثلاثة، لم تكن فكرة الأسد وإنما هي استراتيجية أعلنها الرئيس أديب الشيشكلي والتقطها الأسد بعين ثاقبة وحرص على تنفيذها طيلة فترة حكمه رغم كل التوترات التي كانت تطرأ بين الحين والآخر على علاقاته مع الرياض والقاهرة.
يتبع..
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية