أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

أبو عبدو الفوال .. الصراع بين الفول واللحمة*

أبو عبدو

عشت في حلب سنوات لا بأس بها، كنت أسمع فيها باسم أبو عبدو الفوال أكثر من اسم صباح فخري والمحافظ ورئيس فرع الحزب ورئيس اتحاد الفلاحين، ورئيس غرفة التجارة والصناعة، وجميع رؤساء الأجهزة الأمنية في المدينة، بما في ذلك أغنياء حلب الكبار وما أكثرهم، ولكني ولا مرة أكلت الفول عنده، ولم تغرني أحاديث الناس عن مذاق فوله لكي أقطع المسافة من بيتي إلى محله الكائن في وسط حلب من أجل أن آكل صحن فول.. كنت أقول لمن يخبرني أنه ضاع نصف عمري كوني لم أتذوق فوله، أيهما أطيب الفول أم اللحمة؟ ثم أردف ، ما هذا الاختراع العظيم على صحن الفول لكي يغدو خارقا إلى هذا الحد؟

في الحقيقة، هذه العداوة التي تربطني بالفول والحمص وجميع مشتقاتهما، تعود لأنني أمضيت سنوات كثيرة من حياتي، لا آكل سواها وبالذات أيام الدراسة الجامعية.. وعندما ترعرعت جيدا، اكتشفت أن ما كنا نأكله كأطباق رئيسية في وجباتنا إنما هو مقبلات بالنسبة للآخرين. 

وقصة أبو عبدو الفوال، في مدينة مثل حلب، هي باختصار تلخص الصراع الطبقي بين أبنائها، لأنها مدينة يكثر فيها التباري في الحديث عن الشوي والكباب والشقف والمحاشي والكبب، وجميع هذه الأطعمة، مكلفة ماليا، ولا خلاف على مذاقها الطيب، أما أن يأتي صانع فول ويحجز له موقعا بينها وينافسها ويتفوق عليها، فهذه كانت أسطورة أبو عبدو الفوال، التي ساهم بصنعها الفقراء ، ونجحوا في إغراء الأغنياء بالهبوط إليها وتجريبها واستحسان طعمها، ومن ثم الترويج لها.

لذلك عندما توفي أبو عبدو الفوال بالأمس، رثاه الجميع من أبناء حلب ، لكن الفقراء تحدثوا عنه كبطل شعبي استطاع أن يضع الفول في مرتبة قريبة من مرتبة اللحمة، أدخلونا في كتاباتهم إلى محله الصغير الذي تضج حوله الحياة، وأجلسونا معهم على الطاولات، وأكلنا معهم صحن الفول، وشربنا الشاي بعده، أما الأغنياء والنخب ، فتناولوه كحالة تراثية ورمز من رموز المدينة الأثرية، فهو لم يقنعهم بالتخلي عن أكل اللحمة لصالح الفول، وربما أنهم مثلي لم يأكلوا في مطعم أبو عبدو الفوال على الإطلاق، بل كان هذا الأخير يهرع إلى سياراتهم لكي يناولهم طلباتهم عبر الزجاج. 

من يعرف حلب عن قرب ومن الداخل، يدرك معنى أن تفقد اليوم أبو عبدو الفوال.. فهو حدث لا يقل كارثية عما حل بهده المدينة من دمار، لأنه كان من الدعامات الأساسية التي استطاعت أن تخلق التوازن في مجتمع شديد الطبقية.. فقد جرب فقراء المدينة أن يستثمروا الثورة السورية، للتعبير عن التناقض في مجتمعهم.. وفي كثير من الأحيان أشك أن يكون أهل حلب قد ثاروا على النظام، وإنما ثارت الأحياء الفقيرة على الأحياء الغنية، ثار "الصنايعية" على معلميهم ومشغليهم.. لهذا تميزت ثورة حلب عن غيرها من المدن السورية ، بالنهب الذي تعرضت له مصانع الأغنياء وممتلكاتهم ..وربما هذا يفسر لنا ظهور شخصية مثل فارس الشهابي الذي يذم الثوار "الفقراء" ويطالب بإبادتهم بشتى أنواع الأسلحة، لأنه يعلم أن الصراع في حقيقته طبقي قبل أن يكون سياسي.

لذلك، رحيل أبو عبدو الفوال ، يعني فيما يعنيه ، أن الصراع الطبقي في حلب لن يتوقف إلى أن يظهر رمز جديد وشاعر آخر يستطيع التسويق لبضائع الفقراء الكاسدة، ويقنعهم أن الفول لا يقل أهمية عن اللحمة.

*فؤاد عبد العزيز - من كتاب "زمان الوصل"
(407)    هل أعجبتك المقالة (425)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي