أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

"هندسة ديموغرافية" على مقاس النظام.. عبد السلام حاج بكري*

من غوطة دمشق - جيتي

أثبت نظام بشار الأسد أنه الأذكى بين اللاعبين على الساحة السورية، فمنذ بداية الثورة السورية هَندسَ المشاهد التمثيلية (على ضعفها) التي تظهر مسلحين وسط المتظاهرين، ومن ثم هندس تفجيرات متنقلة لاتهام المتظاهرين بارتكابها، وكان البادئ بتسليح بعض المجموعات ودسّها لمواجهة الجيش تمهيدا لنقل الثورة إلى العسكرة، قبل أن يهندس فصائل إرهابية أكبر ويخرّج رجالها من سجونه ومساجده لشيطنتها وتأليب العالم على شرعيتها.

اخترق مؤسسات المعارضة السياسية عبر تنظيمات إسلامية وأفراد تحدثوا بمصالحه أكثر منه، وأتبعها بمنصات فرضها عبر شركائه على المعارضة، وهي ترى في الثورة وحشا منفلتا يجب لجمه بحبل الأسد، وكان اختراقه الأكبر لمنظمات المجتمع المدني التي وجدت نظريا لخدمة السوريين المنكوبين وتقديم المساعدات التعليمية والتنموية والإغاثية وتطوير مفاهيمهم السياسية.

هذا الجانب كان الأكثر جذبا للعناصر الرمادية والمعادية للثورة والأكثر إغراء للجميع لما فيه من إمكانية للسرقة والإثراء السريع غير المشروع عدا عن رواتبه المرتفعة أصلا.

دسّ النظام عشرات بل مئات الأشخاص "الشبيحة" ممن يتقنون اللغة الإنكليزية، وأحضر كثيرا منهم من بلاد الاغتراب لهذه الغاية، وعمل عبر شركات العلاقات العامة التي يستأجرها لضخّهم في المنظمات الناشئة والهيمنة عليها، وقد حقق في هذا الجانب نجاحا فاق ما حققه في الجانبين العسكري والسياسي، ساعده في ذلك أن الجهات الممولة لمنظمات المجتمع المدني غير معنيّة بتطلعات السوريين وانتماءات هذه المنظمات إن كانت إلى جانب المجرم أم ضده، وهي تسعى لغاياتها الميدانية الاستخباراتية وغيرها أكثر من أهدافها الإنسانية المعلنة، ووجدت في كثير من هذه المنظمات المخترقة من النظام استجابة كبيرة ونبع معلومات ثرّ فاق ما تنتظره.

أكثر ما يعني النظام في قضية منظمات المجتمع المدني ترويجها للأفكار الرمادية البعيدة عن الثورة، وتسويق مفاهيم تعتبر الأسد جزءا من الحل وليس قاتلا، وقدمت له الجهات المانحة خدمة كبيرة في هذا الشق، حيث قاطعت المنظمات التي تبنّت توجّها ثوريا واضحا، وأبقت على تعاملها مع المنظمات التي تبنّت مواقف مائعة سياسيا.

في بروكسل قبل أيام تبنّت بعض هذه المنظمات بيانا وجّهته للاتحاد الأوربي والمنظمات الدولية كأن أنفاسه خرجت من صدر الأسد، جعلت من المعارضة موازيا له في الإجرام والتهجير الطائفي "الهندسة الديموغرافية"، وأطلقت على مئات آلاف المعتقلين السياسيين في سجون الأسد مسمى الغياب القسري، ولم تطالبه بمعرفة مصير عشرات الآلاف من الذين يرجح أنه قتلهم في المعتقلات تحت التعذيب، واعتبرت تجاوزات الفصائل معادلا لأفعال الأسد، وهل يريد القاتل بالكيماوي أكثر من ذلك.

تعريفات الفلاسفة وعلماء الاجتماع للعمل المدني أوضحت أن من مهام المؤسسات المدنية الدفاع عن الناس في وجه السلطة وتبني مطالب المظلومين، وتسمية المجرم دون مواربة وملاحقته، ولكن بيان "منظمات ديمستورا" مال إلى جانب المجرم وساوى بينه وبين الضحية، وكأنه بذلك يتبنى رغبة ديمستورا والأسد معا.

حقيقة، يدرك السوريون أن غالبية المنظمات مخترقة من النظام، ولكن استفادة البعض من مشاريعها واضطرار آخرين لمنتجاتها المختلفة جعلهم يقبلون بها على علّاتها السياسية والاستخبارية، ولم يضف بيانها في بروكسل الكثير لما يعرفه السوريون عنها، غير أنه نقل القضية إلى الإعلام واستفزّ المتعاملين معها، ولن تتجاوز غضبتهم منها بيانات تصدر من هنا وهناك لتستمر هذه المنظمات ويستمر عملها وتعاملهم معها، ويستمر الأسد ضاحكا في سرّه وساخرا من معارضة لم تستطع عبر مكوناتها بناء مؤسسات قادرة على التأثير عليه أو تغيير مواقف العالم والجهات المانحة منه.

ليست المنظمات العاملة في كنف الأسد هي من نجح، بل المنظمات العاملة باسم المعارضة هي من فشل، وربما نجحت كتلك، حيث تتشاركان مهمة نصرة الأسد، ولكن هذه لا تعلن.

*من كتاب "زمان الوصل"
(118)    هل أعجبتك المقالة (110)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي